مهدي داود الخليفةيقصد بالشباب عادة الفئة العمرية بين 15 ـ 40 عاماً. لكن التجربة السودانية تكشف أن الفئة الأكثر عرضة للتجنيد وحمل السلاح هي فئة الثامنة عشرة، حيث يلتقي اندفاع العمر مع هشاشة الوعي السياسي والاجتماعي. هناك عوامل رئيسية دفعت الشباب إلى صفوف الحركات المسلحة والجيش وقوات الدعم السريع، أبرزها:* الجهل والأمية التي تسود الريف والمناطق الطرفية.* العصبيات القبلية والإثنية التي تؤطر الانتماء وتختزل الوطن في الجماعة الضيقة.* حب الزعامة والتصدر وسط شباب حيث يجدون في السلاح طريقاً مختصراً للسلطة والهيبة.يقول أحد المقاتلين السابقين: “الكبار يحتاجون إلى سبب مقنع لحمل السلاح، أما الأطفال والشباب فبعض الوعود الصغيرة بالمال والغنائم تكفي لإقناعهم… إنهم فريسة سهلة للتجنيد”ظلّ الشباب السوداني عبر التاريخ وقود الحراك السياسي والثوري في البلاد، من ثورة أكتوبر ١٩٦٤، إلى انتفاضة أبريل ١٩٨٥، وصولاً إلى ثورة ديسمبر ٢٠١٨. لكن هؤلاء الشباب الذين رفعوا شعارات الحرية والسلام والعدالة، أصبحوا اليوم وقوداً لحرب عبثية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. حرب أعادت تعريف البطولة والشجاعة، وحوّلت بعضهم من مقاومين للظلم إلى محتفلين بالقتل، يوثقون أفعالهم على وسائل التواصل الاجتماعي.السؤال الملح: كيف وصل الشباب إلى هذه النقطة؟ ولماذا أصبح السلاح خياراً قسرياً أو مرغوباً لدى كثير منهم؟تمثل الدوافع الاقتصادية والاجتماعية احد اهم الدوافع للتجنيد.الاقتصاد المنهار، التضخم الذي تجاوز ١٨٧٪، ودمار ٨٥٪ من القطاع الصناعي، إضافة إلى شلل الزراعة، جعلت الانضمام للفصائل المسلحة أو الجيش مخرجاً وحيداً لتأمين لقمة العيش. وُعد بعض الشباب برواتب شهرية، أو إعفاء من الرسوم الدراسية، أو حتى توفير مأوى لأسرهم.غياب أي مشروع سياسي للشباب، وانهيار التعليم، والبطالة الواسعة جعلتهم يبحثون عن بديل يمنحهم الهوية والانتماء، فوجد بعضهم في الجيش “رمزاً لوحدة السودان”، بينما رأى آخرون في الدعم السريع “دولة بديلة” توفر الحماية والسلطة.في مناطق النزاع، ينظر الشباب إلى حمل السلاح باعتباره دفاعاً عن العرض والأرض، خاصة بعد الهجمات التي شنتها قوات الدعم السريع على المدنيين في الجزيرة ودارفور والخرطوم.التعبئة القبلية والإثنية مثلت رافعة قوية للتجنيد، حيث تحولت الحرب إلى معركة وجودية تُخاض لحماية الجماعة أكثر مما تُخاض من أجل الوطن. الجيش بتعدده الإثني والمناطقي ما زال يمثل لبعض الشباب “ضمانة وحدة البلاد”، في حين يستند الدعم السريع إلى هوية ضيقة قائمة على الانتماء القبلي.سنوات الحروب غرست ثقافة الاحتفاء بالعنف. تحولت منصات مثل فيسبوك وتيك توك إلى ساحات استعراض للبطولة عبر بث مشاهد القتل والتمثيل بالجثث. لم يعد الموت مجرد خسارة بل أصبح وسيلة لإثبات القوة والانتقام، ما أدخل المجتمع السوداني في دائرة ثأرية مفتوحة تهدد نسيجه الاجتماعي.بين الانضمام للجيش أو قوات الدعم السريع أو الهجرة، يعيش الشباب مأزقاً قاسياً. كثيرون اختاروا النزوح أو العمل المدني والإغاثي، لكن الفقر وانعدام الأمن الغذائي جعل الحرب بالنسبة للبعض خيار البقاء الوحيد. ورغم رفض لجان المقاومة تاريخياً لأي اصطفاف مع الجيش، إلا أن ممارسات الدعم السريع دفعت بعضهم لإعادة النظر والالتفاف حول الجيش كخيار اضطراري، مع إدراكهم أن ذلك يحمل خطراً على أي مشروع ديمقراطي قادم إذا لم يُبعد الجيش عن السياسة.اقتصادياً: الحرب خلقت سوقاً للعنف يستقطب الشباب باعتبارها فرصة عمل في ظل انهيار القطاعات الإنتاجية.اجتماعياً: المجتمع يتفتت بفعل الاستقطاب الإثني والقبلي، وإعادة بناء العقد الاجتماعي أصبحت ضرورة وجودية.المأساة لا تنحصر في الشباب وحدهم، بل في الطبقة السياسية التي تخلت عنهم. الأحزاب انشغلت بخلافاتها الصغيرة، وقيادات الجيش والدعم السريع تتقاتل على الكرسي بينما تدفع الأجيال الجديدة الثمن. الأسوأ من ذلك أن الحرب تُسوَّق إعلامياً كأنها معركة “بطولة”، بينما هي في حقيقتها جريمة منظمة ضد الشباب والمستقبل السوداني.ما يحتاجه السودان اليوم هو:إبعاد الجيش والدعم السريع عن السياسة عبر عملية نزع سلاح تدريجية وإصلاح أمني شفاف.إشراك الشباب في القرار الوطني كفاعل رئيسي، لا مجرد وقود حرب.إعادة بناء الاقتصاد والتعليم لفتح بدائل للحياة بعيداً عن السلاح.عدالة انتقالية شاملة تنهي الإفلات من العقاب وتفتح باب المصالحة.تأسيس حركة شبابية سلمية مؤسسية تكسر ثنائية “الجيش/المليشيا” وتطرح بديلاً وطنياً جامعاً.إن ما يدفع شباب السودان لحمل السلاح ليس حباً في العنف بحد ذاته، بل هو خليط من الفقر والتهميش وغياب الدولة، إضافة إلى تهديد وجودي خلقته قوات الدعم السريع و المليشيات الأخرى. أما احتفاء بعضهم بالموت فهو انعكاس لمجتمع ممزق يبحث عن هوية عبر العنف. ومع ذلك يبقى الأمل في أن يتحول وعي الشباب من تمجيد الموت إلى صناعة مشروع حياة، يضع أسس سودان جديد.المطلوب الآن ليس فقط وقف إطلاق النار، بل وقف نزيف المستقبل. فالشباب ليسوا وقوداً للجنرالات، بل هم طاقة الوطن التي يجب أن تُستثمر في بناء دولة الحرية والسلام والعدالة التي حلموا بها وأسقطوا الطغاة من أجلها.The post قراءة في تحولات الوعي والعنف في السودان: الشباب بين مطرقة الحرب وسندان التجنيد appeared first on صحيفة مداميك.