جماليات التضليل.. قراءة في رمزية اعتقال أبو لولو

Wait 5 sec.

وجدي كاملشغلت معركةُ سقوطِ الفاشرِ الرأيَ العامَّ المحليَّ والدوليَّ، بما انطوت عليه من أحداثٍ جسيمةٍ وانتهاكاتٍ تفوق الوصفَ والخيال، حتى ليُمكن تقديمُ صورِها ووثائقِ مجرياتها دليلاً دامغًا على فظاعةِ هذه الحرب.وفي مقدمة ما جرى توثيقه من مظاهر الفظاعة، يأتي ما اقترفه «أبو لولو» المحسوب على قوات الدعم السريع، من تصفياتٍ واعترافاتٍ مسجّلة. غير أن ما يعنينا في هذا المقال هو التعليقُ النقدي على الفيديو الذي أعقب ذلك، موثِّقًا لحظاتِ اعتقاله وزجِّه في السجن.تبدو الحِرفية التي صُوِّر بها “أبو لولو” من قِبل وحدة الإعلام التابعة لقوات الدعم السريع أقرب إلى التصوير الروائي (Fictional) المعدّ له مسبقًا، منها إلى التوثيق الصحفي أو التسجيل الميداني Television news reporting and documentation.فالمشهد يغلب عليه الاهتمام بعناصر الإخراج: دقّة الاعداد، وحسن اختيار زوايا الكاميرا، وحلول المونتاج مع الموسيقى التصويرية، وبناء اللقطات منذ لحظة انطلاق عربات الدفع الرباعي، و إنزاله من السيارة حتى تسليمه السجن، و دخوله الزنزانة، في مظهر أنيق وبزّة عسكرية مكتملة.هذا الاهتمام الشكلي، وإن أضفى على المشهد طابعًا سينمائيًا جاذبًا، يطعن في أصالة الحدث ومصداقيته. إذ كان من الأجدر أن يُدعَّم التصوير بلقطاتٍ تمهيدية توضّح التطور الخطي للاحداث و لحظة، ومكان الاعتقال، وسياقه الميداني، وأن يُقدَّم التصوير بأسلوبٍ أكثر عفوية يوحي بواقعية المشهد، لا بإخراجه الروائي . فاللقطة التوثيقية الصادقة تتغذّى على المفاجأة والعفوية، لا على الإتقان الإخراجي وهو ما يحمل دفقات الصدق في التوثيق المصور.في تقديري، أن هذا الفيديو قد اخفق في إيصال الرسالة الإعلامية المقصودة، إذ جاء بنبرةٍ تُوحي بالتفضل والتمنين أكثر من سعيه لتأكيد المهنية والشفافية. فالإقناع في الإعلام الحربي لا يتحقق بالمبالغة الجمالية، بل بالوضوح والصدق وإظهار التفاصيل التي تمنح الحدث وزنه التوثيقي.أما من ناحية المحتوى، فتبرز مفارقة جوهرية في كون “أبو لولو” قد ظهر ببزته العسكرية ورتبته الرسمية. فالبزّة العسكرية ليست مجرد لباس، بل رمزٌ للانضباط والهيبة المؤسسية. وعُرفًا، عند اعتقال أي عسكري يُشتبه بخرقه الانضباط أو ارتكابه مخالفة، يُسلَّم إلى الشرطة العسكرية بملابس مدنية أو زيّ احتجاز خاص، لا ببزته الرسمية التي تظل محفوظة لرمزية الخدمة.إن تجاهل هذه القاعدة يثير تساؤلات مهنية ومنطقية حول طبيعة الاعتقال نفسه: أهو إجراء حقيقي؟ أم أداء رمزي يراد به بثّ رسالةٍ سياسية أو نفسية للجمهور؟هذه القراءة لا تنطلق من موقع عداءٍ للدعم السريع أو لحكومة تأسيس، بل من موقعٍ نقدي مهني يستهدف تفكيك البنية الاتصالية والإعلامية للحرب الدائرة، وكشف ما تنطوي عليه من استراتيجيات تضليلٍ ناعم وغليظ في آنٍ معًا.في المقابل، يُحمد لقوات الدعم السريع قيامها بـ«تصوير» أبو لولو، ولو من باب «التضليل» للرأي العام المحلي والدولي، مقارنةً بمجرمي الطرف الاخر الذين لم يصوّروا – ولو من باب «التضليل» أيضاً – أيًّا من منسوبيهم الذين شاركوا في التصفيات الفردية والجهوية على أساس العرق والانتماء.إنها حرب اللئام والاشرار، وضحاياها هم المدنيون الذين لا حول لهم ولا قوة. فقد بات واضحًا أن هذه الحرب ليست ميدانية فحسب، بل رقمية وإعلامية بامتياز، تتخذ من الصورة واللغة أدواتٍ لتشكيل الوعي الجمعي، وبعثرة إدراكه، وتقسيمه على أسسٍ نفسية وسياسية. لذا، فإن المقاومة الحقيقية للمتلقّي لا تكون بالانفعال أو الاصطفاف، بل بممارسة التفكير النقدي الواعي تجاه ما يُنتج من صور وخطابات، وبتفكيك ما وراء السرديات الحربية من معانٍ وأهداف.ذلك عملٌ ضروري في سبيل تحصين الوعي الجمعي من الاستلاب الرمزي الذي تمارسه أدوات الحرب الحديثة، حيث لم تعد الرصاصة وحدها هي السلاح، بل الكاميرا أيضًا، والخطاب الإعلامي الذي يعيد صياغة الواقع في عقولنا قبل أن يصوّره أمام أعيننا. نختم، باستدعاء إحدى العبارات التي راجت في أيام ثورة ديسمبر المجيدة، ولكن بصيغة جديدة:الطلقة لا تقتل، ما يقتل هو جماليات التضليل الإعلامي، وإجرام التحايل على الوعي.The post جماليات التضليل.. قراءة في رمزية اعتقال أبو لولو appeared first on صحيفة مداميك.