أين عقلاء السودان؟ حين غابت الحكمة وساد صخب الإسفاف

Wait 5 sec.

مهدي داود الخليفةفي كلّ تاريخ الأمم، حين تشتدّ الأزمات وتضطرب الموازين، يخرج من بين صفوفها العقلاء؛ أولئك الذين يعلون صوت الوطن فوق صخب السلاح، ويُطفئون نيران الكراهية بالحكمة والرؤية. لكنّ السودان، في أكثر مراحله حرجاً اليوم، يبدو وكأنّه قد افتقد صوته العاقل، وانسحب من مسرحه أولئك الذين كانوا دوماً حُرّاس الضمير الوطني.لقد نجح إعلام الحركة الإسلامية – ببذاءته المعهودة وخطابه المليء بالتخوين والتشويه – في إقصاء الحكماء والنزهاء من المشهد العام. لم يكتفِ بتدمير البنى التحتية للدولة ولا بتخريب منظومة القيم الأخلاقية، بل عمل بوعيٍ منظم على تفريغ الوطن من رجاله ونسائه المحترمين. ذلك الإعلام الذي جعل من الوطنية شعاراً فارغاً، ومن المعارضة جريمة، ومن الكذب فضيلة، ومن النفاق مهنة، دفع بكثيرٍ من أصحاب العقول الرصينة والقلوب النظيفة إلى العزلة حفاظاً على كرامتهم وسمعتهم، في مشهدٍ صار فيه الاحترام تهمة، والصمت نجاة.ومنذ ثلاثين عاماً وأكثر، سعت الحركة الإسلامية لاحتكار الوطنية والدين معاً، فكلّ من خالفها صار “خائناً”، وكلّ من انتقدها صار “عميلاً”. وبهذا المنهج، تمّ تشويه كلّ رموز الفكر والضمير في السودان، إلى أن أصبح الفضاء العام خاوياً من النبل والاحترام.واليوم، يعود نفس الإعلام الذي كان أداة السلطة بالأمس، ليكرر الخطاب ذاته؛ فيصف كلّ من يطالب بوقف الحرب بأنه “خائن” أو “عميل”، ويُزيّن للناس حرباً عبثية أطلقوا عليها زوراً “حرب الكرامة”، في وقتٍ أُهدرت فيه كرامة السودانيين، وتحوّل الملايين منهم إلى مشردين في أصقاع الأرض، فاقدين الوطن والبيت والأمان. أيّ كرامة هذه التي تُقام على أنقاض المدن وجثث الأبرياء؟أين أولئك الذين كانوا، في لحظات التمزق الوطني، يُمسكون بخيوط البلاد حتى لا تتهاوى؟أين من كانوا يقولون للسلطة: “قِفوا”، وللمعارضة: “تريّثوا”، وللشعب: “تماسكوا”؟لقد عرف السودان عبر تاريخه رجالات دولة من طرازٍ نادر: الإمام عبد الرحمن المهدي الذي جمع بين الحكمة والقيادة، ومولانا السيد علي الميرغني رمز التوازن والتسامح، وإسماعيل الأزهري ومحمد أحمد محجوب اللذان قادا البلاد بعقلٍ راجح ورؤية وطنية صافية.ثم جاءت أجيال لاحقة حملت ذات الشعلة، يتقدّمها الإمام الصادق المهدي الذي لم يتخلَّ يوماً عن دعوته للحوار والاعتدال، وإلى جانبه وقف رجال ونساء صدقوا ما عاهدوا الله عليه: سيد أحمد الحسين، محمد إبراهيم خليل، احمد السيد حمد، سعد عبادي، عمر نور الدائم، أمين مكي مدني، علي محمود حسنين، عبدالرحمن نقدالله، صلاح إبراهيم احمد، فاروق أبو عيسى، فاطمة أحمد إبراهيم، هالة عبد الحليم، سارة نقد الله، امال عباس أولئك الذين اجتمعوا على اختلاف مشاربهم حول كلمة الوطن.كما عرفت البلاد الزاهدين المتصالحين مع ذواتهم، أمثال التجاني الطيب، وصديق يوسف، وكمال الجزولي؛ حسن شيخ ادريس قاضي، الشيخ عبدالله ازرق طيبة و عبد الرسول النور الذين ظلّوا صوت الضمير الشعبي ضد الاستبداد والفساد، ورجالاً ونساءً واجهوا الطغيان بالكلمة والموقف.لكن سنوات الإنقاذ الطويلة كانت أكثر من مجرد حكمٍ شمولي؛ كانت مشروعاً ممنهجاً لإعدام الذاكرة الأخلاقية والسياسية للسودان. شوّهت الرموز، وأهانت المفكرين، وحوّلت الساحة السياسية إلى سوقٍ للسباب والمكايدات. أصبح الاحترام تهمة، والنزاهة ضعفاً، والصدق سذاجة. فكان طبيعياً أن يختار العقلاء الصمت، وأن يغيبوا عن مشهدٍ تهيمن عليه الأصوات الصفراء والوجوه المأجورة.واليوم، في ذروة المأساة، يصرخ الوطن باحثاً عن صوت العقل، عن أولئك الذين لا يخافون في الحق لومة لائم، القادرين على أن يقولوا لطرفي الحرب معاً: “كفى”. فالسودان لا يحتاج مزيداً من البنادق ولا مزيداً من الكراهية، بل يحتاج عقولاً راجحة وقلوباً مؤمنة بأن لا مستقبل لوطنٍ يقتله أبناؤه.إنّ غياب العقلاء ليس قدراً، لكنه نتيجة إقصاءٍ طويلٍ ممنهج. ومع ذلك، يبقى الأمل أن تعود الأصوات النبيلة إلى واجهة المشهد، لتذكّرنا بأنّ الكرامة الوطنية لا تُصان إلا بالحكمة، وأنّ المجد لا يُبنى على الركام، وأنّ السودان ما يزال قادراً على النهوض متى ما استعاد حكماءه مكانهم الطبيعي.فالسودان لا يحتاج من يزيد النار اشتعالاً، بل من يملك الشجاعة ليُطفئها.إنّها ساعة العقلاء — فإمّا أن يعودوا إلى المشهد، أو يظلّ الوطن أسيراً للفوضى والدماء.The post أين عقلاء السودان؟ حين غابت الحكمة وساد صخب الإسفاف appeared first on صحيفة مداميك.