جمال محمد إبراهيم(1)يستشرف السُّـودان بشـريات عودة الأمان لربوعه ، بعد حرب الأعوام الثلاثة التي تركت البلاد في حال انهيار شامل كامل. لم تكف جهود الوساطة الثنائية والجماعية لإيقاف الحرب الرَّعناء، وهيَ حربٌ لم تنشأ من صراعات داخلية بالكامل، بل التبست أحوالها وتعقـدت بين خارج وداخل. ثمّة شُـبهات أصابع خارجية ضالعة في إلهاب أوار تلك الحرب، وثمّة أطراف في الداخل السوداني، سـاعية لكسب مناصرة من عناصر متعاطفة في الخارج ، سواء من الأقربين في الجوار السوداني، أو الأبعدين. ولا يخفى – إلا على الغافلين من السودانيين – أن عند بعض أولئك الغرباء، أجندات تخصَّهم ، ومطامع خفية لا تعلـن.لكن لماذا صارت حرب السودان حربا منســية ..؟(2)ليستْ حرب السُّـودان هي الوحيدة التي اندلعتْ في عام 2023، إذ قبلها بنحو عـام، نشبتْ حـرب روسيا وأوكرانيا ، وبعدها بستة أشهر، نشبتْ حرب إسرائيل على قطاع غزة. غـيّر أنّ ملابسات الحرب السودانية ، اختلفت عن تلك التي أحاطتْ بالحـربين الأخريين اللتين اندلعتا تقريبـاً في وقت يكاد يتزامن مع حرب السودان.. انشغل المجتمع الدولي ، بمؤسَّساته الدولية الرّسمية وغير الرَّسمية، من الأمم المتحدة وإلى الاتحاد الأوروبي، بتلكم الحربين ، وعزَّزت انشغالاته، فضائياتٌ وقنواتٌ عالمية، تركتْ حرب السّــودان غائـبـة عن الإعلام العالمي، فلم تحظَ بتغطياتٍ تُذكر، فصارت حرباً منسية بامتياز. وما زاد الضغث على الإبالة، إلّا قيام الاتحاد الأفريقي بتعليق عضوية السودان في كافة أنشطته، بسبب انقلاب الجيش على حكومة البلاد الانتقالية، فتضاعفت عزلة السودان تماماً في محيطه.حراك الأقوياء ثنائيا بمعزل عن هذه المؤسسات لاحتواء الصراعات الناشبة في الساحات الدولية. دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية وبريطانيا وفرنسا والصين وألمانيا ، لعبت جميعها أدواراً تفاوتت جـديتها لاحتواء الحروب الثلاثة، إلا أن حرب السودان لم تحظ باهتمام سياسي وإعلامي مناسب ، بمثل الذي نالته حرب روسيا أوكرانيا في شرقي قارة أسـيا، أو حرب إسرائيل وغـــزة في الشرق الأوســط.(3)لعلَّ الناظِر في إحصائيات حرب غـزّة، سـيجد أنَّ عدد ضحاياها قد قارب الأربعين ألـفـاً من القتلى، و86 الـفـاً من الجرحى تقريبـاً، أما حرب روسيا وأوكرانيا، فسـيرى عدد قتلاها وجرحاها قد بلغ 50 الف، حسب التقديرات التقريبية ، وأعداد النازحين حوالي 6 مليون نسمة .ولتضح المفارقة، فإنَّ ضحايا حرب السودان تتفاوت إحصاءاتها التقريبية بين 12 ألف وهي تقديرات السلطات السودانية التي لا تجنح لإعلان الأعداد الحقيقية، فيما تقدِّر احصائيات بريطانية أنَّ الوفيات ربّما تجاوزت الـ 60 ألف. ويقدّر عدد النازحين الفارين من ويلات الحرب في حالة السودان ما يصل إلى عشرة ملايين من جملة سكان البلاد البالغ عددهم 42 مليون نسمة. أما الدَّمار الشامل الذي طال كافة مؤسسات الدولة السودانية وبُنـاها التحتية، فـيـقـدَّر بأكثر من مائة مليار دولار أمريكي وربما أكثر.برغم وضوح كبر أرقام هذه الإحصاءات، مقارنة مع إحصاءات حـربَي كلٍّ من أوكرانيا وغزة ، فقـد رصدنا إجماعاً دولياً على وصـف حرب السُّــودان بأنها “الحرب المنسية” بامتياز. .ليسَ ذلك وحده ما يثير العجـب، بل أن يدّعِي رئيس الدولة الأقوى – وبعد مضي ما يقارب السنوات الثلاث على حرب السُّــودان-أنَّه فـوجئ على حَـدِّ قوله: بأوضاع مؤسفة عـن “بقعـة في الأرض اسـمها السُّــودان”، ممَّـا سـمع من ولي العهـد السّعودي. كأنّ الـرئــيس ترامــب يريدنا أنْ نصدِّق أنَّ مستشاريه لا يفيدونه بتقارير حول ملفات كلفهم بها ، بمن بينهم مُستشاره مسعد بولوص الذي عـيَّنه منذ أشهر طويلة بنفـسـه، لمعالجة حـرب السُّــودان.. !(4)لربّما الذي سَـمعه الرئيس ترامب عن السُّودان من وليِّ العهد السعودي، هو أكثر ممَّا ذكره الرئيس الأمريكي للإعلام. إنَّ السُّـودان – والسودان وهو مِن أكبر البلدان الأفريقية – يملك من الموارد والثروات فوق الأرض ما يؤهله لسـدِّ الفجوات الغذائية في كامل إقليمه، إذ ينعم بثاني أطول انهار العالم، وما لهُ من المساحات الشاسعة الخصبة ومِـن الثروات في باطن ارضهِ، من نفطٍ ومعادنٍ كالذهبِ واليورانيوم، ممَّا يثير شـهية كلِّ طامعٍ أشِـر. ولا يغيب عن النظر أنّ الطامعين حول السُّــودان مِن الأقربين في إقليمه- لو علمت- هُم أكثر طمعاً مِن الأبعـدين القابعين وراء البحـار والمحيطـات .برغـم ذلك فإنَّ مَنْ يسـعَى لإيقـاف الحرب الرّعـناء في السُّـودان، لأحـقَّ بأنْ يُحمد مسعاه، وإنْ حمل شُــبهة طمعٍ زائد أو أنانيـة مفرطة. يبقى على السُّــودانيين المغلوبين على أمورهم، توخِّي الحذر قـدر المُتاح، وَهُم ينحازون لمَن يدعم إيقـاف الحرب ويساعدهم لاستعادة الحياة في بلادهم ، ممّا لحق بها من تدمير لمؤسَّساتها، ومقـوّمات خدماتها، وبُنـاها التحتية ، دمـاراً مُمنهجـاً ما بعده دمــار.(5)إن الإخفاقات البنيوية التي سقطت فيها النُّخبُ التي تولت إدارة بلدانها بعد أن نالتْ استقلالها خلال سنوات القرن العشرين، لن تكون في التحليل النهائي من مسئولية تلك النُّخب وحـدها، إذ للتجارب الكولونيالية، وسيطرة أوروبا واقتسامها حكم ما سمي بالعالم الثالث “المتخلـف”ـ أن تتحمَّل الكثير من المسئولية . إنَّ الادعاء بأنّ “الرَّجل الأبيض” هو من حمل عبء تطوير المجتمعات البشرية “المتخلفة” في المقولة الشهيرة : the Whiteman’s burden، هو أكذوبة رفعت في وجوه أولئك “المتخلفين” بهدفٍ شيطانيٍ لامتصاص ثرواتهم وموارد بلدانهم، لصالح المجتمعات المتقدمة في أوروبا. لاستبقاء السيطرة ، تنظر لأفريقيا فترى الذهب من غانا ومن جنوب أفريقيا وروديسيا سابقا تمتصه أوروبا، وقطن السودان يذهب إلى مصانع لانكشير في بريطانيا، ويورانيوم الكونغـو الى بلجيكا والولايات المتحدة . منحوا مستعمراتهم استقلالها صورياً ثم أمسكوا بالحبال السِّـريَّة ، بمسميات برّاقة لاستدامة السـيطرة الخفـية عبر آليات ، مثل “الكمونولث” و”الفرانكفـونية”، وما شــابه.(6)ثمّ تأتي النوايا الحسنة . . ولكن ليسَ عبر الأمم المتحـدة، وإنّما عبر “تاجر البندقـيـة”. وساطة الرئيس الأمريكي بين روسـيا وأوكرانيــا، تنطوي على صفقات وتنازلات عن أراضي واتفاقيات مريبة غامضة. وســيطٌ بمثل تلك الذهنية، تنطوي مساعيه على مبادلات خفية . تلك ذهنية سـمسـار شاطر يتوسّــط بين طرفين متصـارعين، لكن لا مندوحة مِـن طلب ثمنٍ لوســاطته منهما . هذا ليس شيلوك ، بل هو دونالد ترامب.إنَّ الحلول التي اقترحها -أوّل أمره- رجلٌ بهذه الذهنية، تضمنتْ رغبته لإيقاف حرب إسرائيل في قطاع غزَّة ، فيتاح له أن يستثمر في القطاع المطلّ على البحر المتوسط، ليكون منتجعـاً عالميـاً.ينتظر السودانيون حلولاً يقترحها ترامب لإيقاف الحرب الرّعناء بين طرفين سودانيين لكليهما ادعاءات مشكوك في صدقيتها ، فإنّ صفقة استقرار السودان، لا شـك لها ثمنٌ سيقبضه في آخر المطـاف، سمسارٌ أشـبه بشيلوك شيكسبير، تولَّى مهام الأمم المتحدة ثمَّ تركها تغرق -هيَ وميثاقها – في ميـاه “البنـدقـيـة. .القاهرة – 29/12/2025The post السودان: شيلوك ومحاذير السلام القادم appeared first on صحيفة مداميك.