بقلم :مهدي داود الخليفةالأستاذة الكريمة / نفيسة حجرتحية واحتراماً،أكتب هذا الرد من موقع الحرص الصادق على ما تبقّى من النسيج الاجتماعي السوداني، وعلى قبيلة المسيرية تحديداً، التي تستحق أن تُناقَش قضاياها بعقل الدولة لا بعاطفة المعركة، وبميزان الأخلاق لا بمنطق الثأر السياسي.أولاً، لا بد من توضيح مبدئي:مقالي المعنون «حين تُدار الحروب بلا أخلاق» لم يكن، في أي موضع، دفاعاً عن الحركة الإسلامية، ولا تبريراً لفسادها، ولا ستاراً لفلولها، ولا محاولة لإعادة إنتاج خطاب “التسويات الناعمة” مع منظومة التمكين. بل كان – وسأظل أؤكد – نقداً جذرياً لنهجٍ تاريخي ظلّ يستخدم القبيلة وقوداً للصراع، ويحوّل المجتمعات المحلية إلى ساحات تصفية حسابات سياسية وعسكرية لا ناقة لها فيها ولا جمل.الاختلاف الجوهري بيننا، أستاذة نفيسة، ليس حول توصيف فساد الحركة الإسلامية، فذلك أمر محسوم تاريخياً وأخلاقياً، ولا حول مسؤوليتها عن تدمير غرب كردفان ونهب موارده، وهو ما وثّقته الوقائع والأرقام والتجارب المعيشة. إنما الخلاف الحقيقي يكمن في توصيف ما يجري في بابنوسة: هل هو فعل تحرّر أخلاقي، أم انزلاق خطير نحو تفكيك المجتمع باسم الثورة؟ثانياً، حول سؤال “الأخلاق”حين أسأل: متى تُدار الحروب بلا أخلاق؟ فأنا لا أبحث عن مثالية تجريدية، ولا أتجاهل طبيعة الصراع العنيف. إنما أستحضر سؤالاً بسيطاً وخطيراً في آنٍ واحد:هل يُمكن أن نُسقط منظومة فاسدة بإعادة إنتاج أدواتها ذاتها؟الحركة الإسلامية لم تدمّر السودان بالفساد وحده، بل دمرته أيضاً عبر:عسكرة المجتمع و تسليح القبيلة و للأسف تحويل الشباب إلى وقود و تسييس الانتماء الأهلي. و استبدال الدولة بالغنيمةوأي مسار يُعيد إنتاج هذه الأدوات – حتى لو رفع شعار “اجتثاث الفلول” – هو مسار يحمل في داخله بذور الخراب القادم، مهما كانت نواياه.ثالثاً، بين “الزلزال التصحيحي” و”الكسر الاجتماعي”وصف ما جرى في بابنوسة بأنه “عملية جراحية ثورية”يتجاهل حقيقة اجتماعية خطيرة:العملية الجراحية تُجرى بمشرطٍ دقيق، داخل غرفة معقّمة، وبهدف إنقاذ الجسد.أما ما يحدث حين تُفتح المواجهة داخل القبيلة نفسها، ويُدفع الأبناء لمواجهة آبائهم بالسلاح، دون إطار سياسي مدني، ودون مشروع وطني جامع، ودون حماية قانونية أو أخلاقية، فذلك ليس جراحة… بل نزيف مفتوح.التاريخ السوداني يُخبرنا أن الصراعات التي تبدأ بشعار “تطهير المجتمع” كثيراً ما تنتهي إلى:+ ثارات ممتدة* تصدّع دائم في الروابط الاجتماعية* أجيال مشبعة بالعنف* وقيادات جديدة تعيد إنتاج الاستبداد بوجهٍ مختلفرابعاً، نعم… الفساد حقيقة، لكن القبيلة ليست ساحة محاكمةما ذكرتهِ عن فساد الـ2%، ونهب موارد البترول، واختطاف الولاية، هو كلام مشروع ومُحق، ويجب أن يكون في صلب أي خطاب سياسي. لكن السؤال الذي يجب ألا نهرب منه:هل يُحاسَب الفساد بتفجير المجتمع؟ أم ببناء دولة القانون؟القبيلة – أي قبيلة – ليست مؤسسة عدلية، ولا جهاز قضاء، ولا سلطة تنفيذية.وحين تتحول إلى ساحة تصفية حسابات، فإن أول الضحايا لا يكون “الفلول”، بل:السلم الأهليالثقة الاجتماعيةوالأبرياء الذين لا علاقة لهم بالصراع السياسيخامساً، الشباب… بين الوعي والاستغلالأختلف معكِ في توصيف اندفاع الشباب المسلح بأنه دليل وعيٍ مكتمل.الوعي الحقيقي لا يُقاس بالقدرة على حمل السلاح، بل بالقدرة على كسر الحلقة الجهنمية التي تربط بين الظلم والعنف.الشباب السوداني شجاع، نعم.غاضب، نعم.محقّ في سخطه، نعم.لكن واجب النخب – ومنهم نحن و انت – هو حمايته من التحوّل إلى نسخة جديدة من وقود الحرب، لا دفعه للاعتقاد أن البندقية هي طريق الخلاص الوحيد.سادساً، المسيرية… أكبر من صراع لحظةالمسيرية، كما قلتُ وسأظل أقول، ليست ملكاً للكيزان، ولا رهينة للفلول، ولا مادة خام لمشاريع عسكرية، أياً كان شعارها.هي مكوّن وطني عميق، بتاريخٍ من الحكمة والتعايش، وتجربة الناظر بابو نمر ليست سردية رومانسية، بل درس سياسي واجتماعي بالغ العمق:حين تُدار المصالح بعقل، تُجنّب المجتمعات الحروب؛وحين تُدار بالبندقية، تُفكّك المجتمعات باسم الشجاعة.أرفض الحركة الإسلامية، وأرفض فسادها، وأرفض اختطافها لغرب كردفان.لكنني في الوقت نفسه أرفض:تبرير العنف الاجتماعي باسم الثورةتحويل القبيلة إلى ساحة اقتتال داخلياختزال العدالة في منطق “الغلبة”واستبدال دولة المواطنة بدولة البنادقالطريق الوحيد الذي يحفظ المسيرية، ويحمي السودان، هو:* وقف الحرب و تفكيك المنظومة العسكرية* بناء دولة مدنية ديمقراطية* محاسبة الفاسدين عبر القانون* وإعادة الاعتبار للأخلاق السياسية بوصفها شرطاً للنجاة، لا ترفاً فكرياًاخيرا، قد نختلف في التوصيف، لكن ما يجمعنا – إن صدقت النوايا – هو الخوف على السودان.والسودان، يا أستاذة نفيسة، لا يُنقَذ بتكسير مجتمعاته، بل بإنقاذها.مع خالص التقدير، The post الحرب حين تفقد بوصلتها الأخلاقية: بابنوسة والاختبار الصعب للوعي الثوري (ردا علي مقال الأستاذة نفيسة حجر) appeared first on صحيفة مداميك.