ليبيا: حكاية القلعة الإسبانية … ذاكرة الحجر فوق جبل مسلاتة

Wait 5 sec.

فوق إحدى قمم الجبل في مدينة مسلاتة الليبية، تقف القلعة الإسبانية شامخة، لا كأطلال صامتة، بل كشاهد حيّ على قرون متعاقبة من التاريخ، وصراع الحضارات، وحكاية المكان والإنسان. منذ العصور القديمة، لم يكن موقع القلعة (على بعد 130 كم شرق العاصمة طرابلس) مجرد اختيار عابر، بل نقطة دفاعية أمامية ذات أهمية استراتيجية. تشير بعض الروايات التاريخية إلى أن أساس القلعة أُقيم على أنقاض معبد فينيقي قديم، قبل أن تتعاقب عليه الحضارات، بدءًا من الفينيقيين، ثم الرومان الذين اشتهروا في ليبيا ببناء الحصون والقلاع الدفاعية، خاصة في مواجهة هجمات القبائل الليبية آنذاك. في تلك الحقبة، كانت مسلاتة جزءًا من الامتداد الزراعي لمدينة لبدة الكبرى، واشتهرت بزراعة الزيتون والزراعة عمومًا، مع اعتمادها شبه الكامل على مياه الأمطار. وما زالت الشواهد قائمة حتى اليوم؛ سدود رومانية على معظم أودية المدينة، أُنشئت لحجز مياه الأمطار وتوظيفها في الزراعة، ومعاصر زيتون رومانية قديمة منتشرة في مناطق الشعفيين، وسَلْمة، وسندارة، وغيرها، تؤكد عمق النشاط الزراعي والحضاري في تلك المرحلة. أما القلعة الإسبانية، بصورتها المعروفة اليوم، فقد شُيّدت في الفترة ما بين عامي 1510 و1515 خلال العهد الإسباني، على أنقاض معبد روماني، لتكون حصنًا متقدمًا في منظومة الدفاع عن طرابلس. وبعد خروج الإسبان، تعاقبت عليها قوى تاريخية متعددة؛ دخلها فرسان القديس يوحنا، ثم أصبحت تحت سيطرة الدولة العثمانية، ولاحقًا الاستعمار الإيطالي. ورغم تغيّر الحكّام وتبدّل الأزمنة، حافظت القلعة على وظيفتها الأساسية: حصن دفاعي وموقع مراقبة. فموقعها المرتفع، وإطلالتها المهيبة فوق الجبل، جعلا منها نقطة استراتيجية لا غنى عنها عبر القرون.اللافت أن القلعة لم تخضع إلا لعملية ترميم واحدة فقط، كانت سنة 1923 خلال فترة الاستعمار الإيطالي، لتبقى بعدها على حالها تقريبًا، محتفظة بروحها الأصلية وملامحها التاريخية. في السنوات الأخيرة، أُعيد اكتشاف عدد من المواقع الأثرية المحيطة بالقلعة، بعضها لم يكن مسجلًا رسميًا لدى مكاتب الآثار، وتم تأمينها بجهود الشرطة السياحية والجهات المختصة. كما سُجل انخفاض ملحوظ في الجرائم المرتبطة بالآثار، في إطار سعي متواصل لحماية هذا الإرث التاريخي. اليوم، لا تُعد القلعة الإسبانية مجرد معلم أثري، بل رمزًا لهوية مسلاتة وذاكرتها العميقة. ويجري تنبيه كل زائر إلى ضرورة المحافظة عليها، وعدم العبث بأي عنصر أثري، حتى تبقى القلعة في أفضل صورة ممكنة، وتستمر في رواية قصتها للأجيال القادمة.المصدر: RT