بقلم /هشام الحلوإذَا كَانَ لِأُمِّ دَرْمَان صَوْتٌ يَكْتُبُهُ الحِبْرُ، فَهُوَ بِلَا شَكٍّ صَدَى قَلَمِ الرَّاحِلِ عَلِي المَكّ؛ ذلك الأديب الذي لم يتعامل مع الجغرافيا بوصفها تضاريس، بل بوصفها كائناً حياً يتنفس. لَمْ يَكْتُبْ المَكُّ مُجَرَّدَ نُصُوصٍ سردية، بَلْ صَاغَ خِطَاباً إِنْسَانِيّاً رَفِيعاً، جَعَلَ فِيهِ مِنْ ذَرَّاتِ التُّرَابِ تِبْراً، وَمِنَ الأَزِقَّةِ الضيقة قَصَائِدَ تَمْشِي عَلَى قَدَمَيْن.إنَّ العَوْدَةَ اليَوْمَ إِلَى أُمِّ دَرْمَان، في ظل التحولات الكبرى والخدوش التي أصابت وجهها، هِيَ فِي جَوْهَرِهَا عَوْدَةٌ إِلَى “نَصِّ” عَلِي المَكِّ القَدِيمِ. هي بَحْثٌ حَثِيثٌ بَيْنَ الأَنْقَاضِ وَالرُّكَام عَنْ تِلْكَ “الأُلْفَةِ” الضائعة، الَّتِي سَكَبَهَا بِمِدَادِ قَلْبِهِ فِي كِتَابِهِ العُمْدَةِ “مَدِينَةٌ مِنْ تُرَاب”. لقد علمنا علي المك أن التراب في أم درمان ليس مادة للاتساخ، بل هو “طهارة” وجودية، ومبتدأ الحكاية ومنتهاها.فِي “المَسَالِمَة”، وَ “حَيِّ العَرَب”، وَ “العَبَّاسِيَّة”، وَ “ود نوباوي”، لَمْ يَتْرُكْ لَنَا عَلِي المَك مَجَرَّدَ أَحْيَاءٍ سَكَنِيَّةٍ أو تقسيمات إدارية، بَلْ تَرَكَ لَنَا “حَالَاتٍ شُعُورِيَّةً” عابرة للزمن. كانت أزقته مسرحاً للتسامح الصوفي، وللتعايش الذي يرفض الزيف ويتنفس عبق التاريخ.وَمِنْ أَغْرَبِ مُفَارَقَاتِ العَوْدَةِ اليوم، أَنَّنَا صِرْنَا نَرَى مَلَامِحَ أُمِّ دَرْمَان “المُتْعَبَة” بِعَيْنَيْهِ “المُحِبَّتَيْن”؛ فَنُبْصِرُ الجَمَالَ كَامِناً فِي أدق التفاصيل البسيطة التي قد يغفل عنها العابر العادي:بَرْشُ الصَّلَاةِ: ذلك المنسوج من سعف النخيل، المَفْرُوشُ بِحُبٍّ أَمَامَ البيوت، كأنه دعوة مفتوحة للمارة والفقراء.زِيرُ المَاءِ: الذي مَا زَال يَقِفُ كحارسٍ أمينٍ عَلَى نَاصِيَةِ الشَّارِعِ، يمنح الحياة مجاناً لكل ظامئ، مجسداً قيم “النفير” والتكايا والكرم السوداني الأصيل.شَجَنُ الحَقِيبة: تلك الألحان التي تخرج من المذياع القديم، يَتَرَدَّدُ صَدَاهَا فِي عُمق الليالي الأومدرمانية، وكأنها تعويذة تحمي المدينة من الانهيار النفسي رغْمَ الصَّمْتِ الذي فرضه الواقع المرير.إِنَّ العَوْدَةَ إِلَى المَنَازِلِ الصَّامِدَةِ والخاويه فِي “المَوْرِدَة” أو مراقبة النيل وهو يغسل أقدام “أبو روف”، هِيَ فِي حَقِيقَتِهَا اسْتِكْمَالٌ لِفَصْلٍ لَمْ يُمهل القدر عَلِي المَك لِيَكْتُبْهُ فِي كِتَابِهِ. هو فَصْلٌ نَكْتُبُهُ نَحْنُ اليَوْمَ بِدُمُوعِنَا، بِصَبْرِنَا، وَبإصرارنا على البقاء.عُنوان هذا الفصل هو: “الانْبِعَاثُ مِنْ بَيْنِ الرُّكَام”. فرغم الغبار الكثيف الذي غطى الملامح الجمالية للمدينة، ورغم آثار الجراح التي خلفها الزمان والحرب، يَظَلُّ مَعْدَنُ المَدِينَةِ الأَصِيلُ عَصِيّاً عَلَى النِّسْيَانِ والتحلل. إن “التراب” الذي كان يقدسه علي المك، يثبت اليوم أنه مادة “غاسلة للروح”؛ تعيد تشكيل الهوية السودانية كلما مالت بها الريح، وتظل مَنَارَةً لِكُلِّ مَنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ ثُمَّ عَادَ لِيَرْتَمِيَ فِي حِضْنِ “الأم” الكبرى.لم تكن أم درمان عند علي المك مجرد مبانٍ من طين، بل كانت “مجلس سمر” ممتد. كان يرى في “المقاهي” و”الأندية” و”دور الرياضة” مراكز لصناعة الوعي القومي. واليوم، ونحن نستعيد خطاب الحكاية، ندرك أن استعادة أم درمان تبدأ من استعادة تلك الروح الاجتماعية؛ روح الجيرة التي تجعل من الحي الواحد “بيتاً كبيراً”، ومن الغريب “ابناً للدار”.لقد استطاع علي المك أن يحوّل “المحلي” إلى “عالمي”، فلم تعد أم درمان ملكاً لسكانها فقط، بل أصبحت رمزاً لكل مدينة تقاوم القبح بالجمال، وتقابل الانكسار بالشموخ.وخَاتِمَةُ الحِكَايَةِ الَّتِي لَا تَنْتَهِياليَوْمَ، وَنَحْنُ نَسْتَصْحِبُ رُوحَ عَلِي المَك مَعَنَا في كل خطوة فوق هذا الثرى، نُدْرِكُ يَقِينَ قَوْلَتِهِ العميقة: “إِنَّ أُمَّ دَرْمَان هِيَ العَالَم”.هذه العبارة ليست مجرد مبالغة عاطفية، بل هي إقرار بأن جوهر الإنسانية، ببساطتها وتعقيدها، بتدينها وفنها، يتركز في هذه البقعة. وَبِرَغْمِ كُلِّ مَا جَرَى من تشريد أو تدمير، تَبْقَى العَوْدَةُ إِلَيْهَا هِيَ عَوْدَةٌ لِرَدِّ الاعْتِبَارِ لِهَذَا التُّرَابِ المُقَدَّسِ؛ هي استعادة لخطاب الحكاية الذي لا ينقطع، لتبدأ من جديد رحلة البحث عن “مدينة من تراب”.. لكنها تحمل دائماً قَلْباً مِنْ نُور، بينما تصدح مآذنها وتدق كنائسها في عناقٍ سرمدي، لتقول لنا بلسانٍ واحد: حيَّ على الفلاح.The post أُمُّ دَرْمَان.. عَلِي المَكّ: عَوْدَةٌ إِلَى خِطَابِ الحِكَايَه. appeared first on صحيفة مداميك.