حكاية الثورة الرومانية – ديسمبر 1989 – من الألف للياء… (الحلقة العاشرة)

Wait 5 sec.

د. عصام محجوب الماحي* رئيس جهاز الأمن الشيوعي: سحبت القوّة الضارِبة لثكناتها لأنّني أقسمتُ الولاء للشعب الروماني ولوطني، وأوقفت مع رئيس هيئة أركان الجيش حدوث حمام الدم الذي جرى إعداده* الجنرال يوليان فلاد: كان الأمر في غاية البساطة، كان يكفي أنّ أُصدُر أمرًا من كلمتين: “أطلقوا الرصّاص!”، فيسقطون كالسنابِل. فهل كان ذلك يُجدي نفعًا؟ أعتقِد أنّه لمْ يكُن كذلك، وهذا ما كُنتُ، ولا زِلتُ، وستظلّ تلك قناعتي الراسِخة طوال حياتي”مرّة أخرى نترُك صحيفة (ليبرتاتيا) جانِباً، ونبحث في مواقِع أخرى وصفحات عديدة بمنصة (فيسبوك) تناولت أحداث وأسرار ثورة ديسمبر 89 الرومانية، ونستعرض حديثًا أدلى به الجنرال يوليان فلاد، آخر رئيس لجهاز الأمن الروماني (سيكوريتاتي) الذي تحوّل بعد الثورة إلى “جهاز المعلومات الروماني” وأصبح جِهازًا مدنيًا تحت رقابة البرلمان الروماني.بعد نحو 25 عامًا من الصمتِ، كان أوّل ظهور علني للجنرال يوليان فلاد يوم 29 أكتوبر 2015، في مؤتمر بعنوان “ديسمبر 1989 – الحقيقة والتلاعب”، نظّمته جامعة “كونستانتين برانكوشي” في مدينة تيرقوجيو، حيث كشف لأوّل مرّة، ما جرى صباح يوم 22 ديسمبر 1989، وتحدّث عن القوّة العسكرية التي كانت بحوزة جهاز الأمن الروماني الذي كان يرأسه، في منطقة وسط بوخارست ومركز القيادة والسيطرة داخل مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروماني.قال فلاد: “المنصب الذي شغلته حتّى ديسمبر 1989، وضعني في قلب الأحداث حينها، وبحُكم منصبي كان عليّ الإلمام بالوضع برُمّته، ويجِب أنْ أعترِف، بكلِ تواضُع، أنّني كُنت على دراية تامة به. الجنرال اشتفان قوشي، وتخليداً لذِكراه، نعترف باننا جميعا ندين له بالفضل لكونه وطنيًا عظيمًا ورومانيًا بارِزًا، لمْ يكُنْ ولا شخصي جزءًا مِمّا كان يجري حمايته، وأطَلق علينا البعض اسم “القُبّة”، وآخرون “المؤامرة”، أو أي اسم آخر. في بداية تلك الأيام، كُنّا نؤدي واجِبنا في المناصِب التي شغلناها”.وأضاف: “كان الجنرال قوشي رئيسًا للأركان العامة، وبالتالي القائد التنفيذي للجيش، وكُنْت وزيرًا دولة رئيسًا لجهاز أمن الدولة، القوّة المُسلّحة الأخرى للدولة التي كانت تمتلكها البلاد آنذاك. كانت السُلطة الضارِبة في أيدينا. ومن البديهي أنّ الذين تولّوا لاحِقًا السُلطة لمْ يكُنْ بإمكانهم ربطنا بها، لأنّنا لمْ نكُنْ جزءًا من نفس المجموعة. لمْ نكُنْ قط”.وأكد الجنرال قائلاً: “وصلت معلومات باحتمال وقوع استفزازات من شأنها أنْ تتسبِّب في إراقة دماء غير مسبوقة، ومن قنوات الإعلام، كما تعلمون، بُثّت لاحقاً هذه المعلومات على محطات الإذاعة والتلفزيون. كان علينا كبح جماح القوة الدفاعية للدولة. وقد فعلنا ذلك بأقصى درجات الوعي. لمْ يكُنْ من المُمْكِن ضمّي إلى مختلف الهيئات التي أرادت إرساء شكل السُلطة الذي ظهر لاحقًا، لأنّنا لمْ نكُن جزءًا من نفس المجموعة، فالذين تولّوا السُلطة من أولهم وحتى آخرهم أخِذت موافقتهم مُسبقًا بشكلٍ أو بآخر. وكما يقول المثل (المتشابهون يتجمّعون، أو، الطيور على أشكالها تقع)، لذا لمْ يكُنْ الأمر صعبًا للغاية أنْ يتجمّعوا”.وأردف يوليان فلاد: “كان ذلك مُتعمّداً، وكان الأمر سيكون جريمة كبرى لو اندلع صراع بالسلاح بين الجيش وقوات الأمن، ولو تبادلوا إطلاق النار، لكانت جريمة غير مسبوقة ذات عواقِب وخيمة لا يمْكِن تصوّرها، ولسالَت دماء لمْ يسبِق لها مثيل. عِلماً بأنّه بُذِلت محاولات، بعضها نجح، كما في حادثة مطار أوتوبيني، حيث لقي عشرات الجنود الصغار حتفهم، شباب انضمّوا للتو إلى الجيش في نوفمبر، فذُبحوا بعد شهر واحد بدمٍ بارِدٍ. كان هناك تهوّر من القائد المسؤول عن أمن المطار، لكن الدور الأكبر يرجع للتضليل الذي حدث. تخيّلوا ما كان سيحدُث لو توسّع وعمّ هذا التضليل. جرت هذه الحالات في أماكن أخرى، واتّسمت جميعها بالخصائص نفسها، ولكن لمْ يحدُثْ ما كُنّا نخشى منه بفضل شرف ومجد الجنرال قوشي، الجندي والوطني المُخْلِص، الذي أدّى مسؤولياته الجسيمة على أكمل وجه”.ويواصل فلاد قائلاً: “قدّمت المؤسّسة التي كُنت أُنسّقها لرئيس الدولة سيلاً مُتواصِلاً من المعلومات حتى اللحظة التي قرّر فيها مغادرة مقرّ اللجنة المركزية. لمْ يعُد بإمكانه البقاء، لأنّ أمام مقرّها ساحة واسعة، كانت تُعرف سابقًا بساحة القصر، وأصبحت تسمى الآن ساحة الثورة. اكتظّت تلك الساحة في غضون ساعات قليلة، ففي صباح يوم 22 ديسمبر، توجّهت نحو هذه الساحة حشوداً غفيرة من المناطق الصناعية في العاصمة، إلى جانِب العديد من المواطنين الآخرين. لمْ يعُد بإمكان شاوشيسكو البقاء هناك، في مقرِّ اللجنة المركزية”.ويضيف موضِّحاً: “في المنطقة المحدّدة، بين شارع ماقيرو وشارع بالتشيسكو وصولاً إلى الجامعة، وعلى شارع إدقار كوين، وفي ما يُعرف الآن بشارع ريجينا إليزابيث وشارع بريزويانو، ويمتدّ الطريق حتى شارع شتيربي فودا ثُمّ ينعطِف شرقًا نحو فندق أتيني بالاس، خلف الأثينيوم الروماني، كُنتُ أمتلِك في هذه المنطقة قوّة لواء، وهي وحدة كبيرة، بكامِل أسلحتها القتالية، لأنّ مرسوم التعبئة العامة كان قد صدر بالفعل وتمّ حشد جميع الوحدات للحرب. إضافةً إلى ذلك، وفي الإطار الداخلي، ولكن على نفس مسار المنطقة الأولى، كنتُ قد أنشأتُ أكاديمية “ألكساندرو إيوان كوزا” التابعة حالياً لوزارة الداخلية، والتي كنتُ قائدها لعدد من السنوات، وقد أحببتُ هذا المنصب أكثر من غيره، لأنّني مُعلمٌ بالمهنة. كان هناك 700 طالِب عسكري، مُزودين بالأسلحة، وبمستوى تدريب مختلف عن مستوى تدريب الجنود، ومعهم 200 ضابط. كان مِن شبه المستحيل تجاوزهم. وفي صباح يوم ٢٢ ديسمبر، في تمام الساعة الثامنة، وقد كنتُ في اللجنة المركزية لعدة أيام، ولمْ يعُد بإمكاني المُغادرة منها إلى مكتبي في الجهاز، اتّصلتُ برئيسي أركان الوحدتين: رئيس مدرسة الضباط العسكريين، العقيد جورجي راباجيل، ورئيس أركان قوات الأمن، العقيد بافيلسكو، وكانا يقودان هاتين القوتين، وأمرتُهما بالانسحاب من الموقِع بانضباط تام والعودة إلى وحداتهما الأصلية. انسحبت الكتلة الهائلة من الرجال المسلحين المرتدين الزي العسكري، والمُستعدين لإطلاق النار عند الأمر. اتّجَهت تلك الكُتلة الضخمة نحو ساحة القصر، ولمْ يكُن هناك ما ومَن يستطيع أنْ يعترِض طريقها. تحرّكت بحُريّة في ساحة القصر، وفي هذه الحالة لمْ يكُنْ بإمكان شاوشيسكو البقاء”.ويواصِل فلاد شارحاً: “سهّل استانكوليسكو هروب شاوشيسكو من مقرّ اللجنة المركزية، حيث قام، متجاوزًا رئيس مديرية الأمن والحراسة، باستدعاء مروحية أخذت على متنها الثنائي شاوشيسكو وعضوان آخران من أعضاء اللجنة المركزية. ومن أمام المصعد الذي استقلوه للوصول إلى المنصّة فوق مبنى اللجنة المركزية للصعود إلى المروحية، صرخت إيلينا ونيكولاي شاوشيسكو بصوتٍ هستيري في وجه ضباط الحراسة المرافقين لهما، مطالبين بإطلاق النار ومنع أي شخص من دخول مقر اللجنة المركزية”.وختم الجنرال يوليان فلاد حديثه كاشفا احد أسرار تلك الأحداث قائلاً: “في تلك الساعة، كان هناك ما يصل إلى عدة مئات من ضباط مديرية الأمن في مقر اللجنة المركزية، مُسلّحين بأفضل أسلحة المشاة، من مسدسات وبنادق آلية ورشاشات إلخ، ومع ذلك فُتِحت أبواب المبنى بأمرٍ منّي. ماذا كان يُفترض بنا أنْ نفعل في تلك اللحظة؟ لو وجّهنا البندقية نحو ذلك الحشد، لسقطوا كسيقان القمح أمام الحاصدين. لمْ يكُنْ ذلك مُمْكِنًا. لمْ أكُن لأفعل مثل هذا الأمر قط، ولمْ أفعله أبدًا. لا تزال هناك أفواه حتّى اليوم تقول (الجنرال فلاد خان). لمْ أخُن. أقسمت الولاء للشعب الروماني ووطني. كان من أبسط الأمور إصدار أمر من كلمتين (أطلقوا النار!)، وكانوا سيسقُطون كسنابِل القمح. هل كان ذلك سيُعَدّ خيراً؟ أعتقد أنّه ليس خيراً. هذا ما كُنتُ وما زلتُ، وستظلّ تلك قناعتي الراسِخة طوال حياتي”. رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الروماني، بطل أمْ ذهب بسِرّه:عطفًا على حديث الجنرال فلاد عن الجنرال اشتفان قوشي، نستعرض تقريرا، كُتب للأسف بعد وفاته وقد ذهب بأسراره ولم يتجاوز 50 سنة من العُمْرِ.لا يزال الجنرال اشتفان قوشي أحد أكثر الشخصيات غموضًا وإثارةً للجدلِ في ثورة ديسمبر 89، ليس كشخصية سياسية، بلْ لأنّه كرجل عسكري كان في الصفِ الأوّل، وقف تحديدًا على مُفْترق طُرق بين أوامر نظام يحتضِر وانهياره الحتمي. لمْ يكُن قوشي بطلًا تقليديًا ولا مُجرّد مُنفِّذ للأوامر، وإنّما كان رجلًا من رجال النظام، وجد نفسه في موقع المسؤولية لحظة انهيار النظام أمام عينيه.في ديسمبر 1989 كان اشتفان قوشي رئيسًا لهيئة الأركان العامة للجيش الروماني، وهو أحد أعلى المناصب العسكرية في الدولة. وقد نشأ على نمط عسكري نموذجي للجيش الشيوعي: الانضباط، والولاء للحزب، والامتِثال للأوامِر السياسية. لمْ يُعرَف عنه أيّ مُعارضة، ولم يُبدِ أي بوادر لمُعارضة نظام شاوشيسكو قبل اندلاع انتفاضة تيميشوارا.وتُعدّ تيميشوارا نقطة تحوّل محورية في سيرته. في الفترة من 17 إلى 20 ديسمبر 1989، وصل قوشي إلى المدينة التي كانت غارِقة في التمرُّد. ظاهريًا، كان هدفه “استعادة النظام واستتباب الأمن”، أما في الواقع، فكان إدارة وضع خرج عن السيطرة تمامًا. هناك، واجه قوشي حقيقة لمْ تعُد التقارير قادرة على إخفائها: خرج السكان إلى الشوارع بأعداد غفيرة، وواجه الجيش مدنيين عُزّل، وأصبحت الأوامر الصادِرة أكثر صعوبة عند التنفيذ.تشير أقوال الشهود والتسجيلات إلى أنّ قوشي رفض، في مرحلة ما، استخدام الجيش ضد السُكان، ودخل في صراع مُباشِر مع هياكل الحزب وجهاز الأمن. ولا يزال شهيرًا ذلك المشهد الذي رفض فيه بشكل قاطع إشراك القوات الخاصة، مُصرِّحًا بأنّ الجيش لنْ يطلق النار على الناس بعد الآن. لمْ يكُن ذلك بدافِع مثالية ديمقراطية مُفاجئة، وإنّما انطلاقًا من قناعته بأنّ الوضع أصبح من المُستحيل السيطرة عليه عسكريًا، وأنّ مذبحة ستدمِّر مؤسّسة الجيش نهائيًا.بعد فرار شاوشيسكو، برز قوشي في طليعة الذين كانوا في مبنى اللجنة المركزية، وشارك في النقاشات الفوضوية خلال الساعات الأولى من فراغ السُلطة، وبدا لفترة وجيزة أنّه سيكون أحد الشخصيات المحورية في المرحلة الانتقالية، بيد أنّ هذا الموقع، والوضع تحديدًا، هو ما أثار قلقه. في تلك اللحظة، لمْ يكُن ينتمي تمامًا لا إلى النظام القديم، وبالطبع لا إلى البنية السياسية الجديدة التي كانت تتشكّل بسرعة حول إيون إيليسكو.في الأشهر اللاحقة، أُقْصي اشتفان قوشي دون ضجيج. لمْ يُحاكم، ولمْ يُدان علنًا، لكنه أُبْعِد عن مركز السُلطة الجديدة. تلاشى نفوذه، وبقي دورَه في أيام الثورة غامِضًا، وغير واضِح رسميًا حتى يومنا هذا. وبالنسبة للبعض، كان الرجل الذي منع الجيش من أنْ يصبح أداة إبادة جماعية. وبالنسبة لآخرين، كان جنرالًا تصرّفَ مُتأخِّرًا جدًا وبحذرٍ مُفْرِط.أدى موته المُبكِّر، عام 1994، عن عمر يناهز الخمسين عامًا فقط، إلى إغلاق باب أيّ فُرصة لتوضيح موقِفه الشخصي. لمْ يُتحْ له الوقت الكافي ليقدِّم روايته كاملةً، ولمْ يتْرِك مُذكِرات حاسِمة، ولمْ يُستمع إليه في إطار تاريخي نهائي.يبقى الجنرال اشتفان قوشي رمزًا لفئةٍ نادرة: رجل النظام الذي، في لحظةٍ حرجة، لمْ يُنفِّذ أوامره حتى النهاية. ليس ثوريًا، ولا بطلًا، بلْ ضابطًا أدرك أنّ هناك أوامر، إذا نُفِّذت، تُدمِّر كل ما يدّعون الدفاع عنه.لمْ يصدُر التاريخ حُكْمًا قاطٍعًا عليه. وهذا الغموض يُشير إلى الكثير عن الثورة الرومانية نفسها: تغييرٌ كان فيه من المستحيل، في كثير من الأحيان، رسم خط فاصِل بين الذنب والخوف والمسؤولية.؛؛؛…؛؛؛غداً في حلقة جديدة نستعرض الأيام الثلاثة الأخيرة من حياتهما قبل إعدامهما، والتي قضاها الثنائي شاوشيسكو في الحجز وتحت حراسة مُشدّدة في ثكنة عسكرية بمدينة تيرقوفيشتي؛ ونقرأ في موقع (عالم العدالة) بمنصة (فيسبوك) ما كتبَتاه قبل 13 عاما، أدينا أ. استانكو و إيلينا دوميتراش، تحت عنوان “مهزلة قضائية في تيرقوفيشتي – النص الكامل لمحاكمة شاوشيسكو وزوجته يوم 25 ديسمبر 1989، والتي تُعَدّ وصمة عار في جبين القضاء الروماني”.The post حكاية الثورة الرومانية – ديسمبر 1989 – من الألف للياء… (الحلقة العاشرة) appeared first on صحيفة مداميك.