الانقسام الرقمي في السودان

Wait 5 sec.

عمار قاسم حمودةفي بداية الحرب (أبريل 2023) كانت الاتصالات منسابة في كل السودان، ولكن بعد مرور شهور بسيطة بدأ الحال يتغير. وتم تبادل الاتهامات بصورة علنية عن المسؤولية في قطع خدمات الاتصالات في الاسبوع الاول من فبراير 2024 وذلك إثر الإظلام الشامل في كل السودان. لكن قبل ذلك بحوالي 7 شهور كانت مناطق كثيرة وكبيرة خارج التغطية وهي مناطق كردفان ودارفور واجزاء من الخرطوم والوسط. وكانت تلك مناطق خاضعة للسيطرة العسكرية لقوات الدعم السريع.في ثنايا تبادل الاتهامات والتي لم تكن المرة الأولى ولا الأخيرة، نشأ تحليل يقوم على معلومات ذات مصداقية كبيرة، ولكنها غير مؤكدة من جهات رسمية نظرا لخطورتها، فحواه أن قطع الخدمة عن المواطنين في مناطق سيطرة الدعم السريع لم تكن لأسباب فنية، وإنما كانت نتيجة لأوامر (عسكرية) من جانب القوات المسلحة، ليعقبها انقطاع كلي تشير الدلائل أن منشأه الدعم السريع كرد فعل عاجز، وعاجز عن توفير الخدمة للمواطنين في مناطقه.التخوف من فقدان البيانات الحكومية، وفقدان البنية التحتية للاتصالات والمتمثلة في مراكز البيانات والمحطات التي تمثل قلب الشبكة لكل شركة اتصالات، خلق حالة من انفتاح الاحتمالات للأسوأ. وتخوف المختصون من فقدان بيانات لا تقدر بثمن. كما خلقت توترا كبيرا وسط المواطنين حيال ملكياتهم الخاصة وأموالهم، ولذلك ظهرت محاولات من جانبي الصراع لتطمين المواطنين من طرفي القتال، ولكنها محاولات زادت الارتباك أكثر من زرع الاطمئنان! منها فيديو تم تصويره لضابط (أو ليس ضابطا في الحقيقة) يتجول داخل أحد مراكز البيانات بالخرطوم ويحاول طمأنة المواطنين بدون أن يعي ما حوله وأهميته. (من سخريات القدر في هذه الحرب أن هذا الضابط تحول من طرف إلى طرف).الحقيقة أن مجرد التفكير فيما يمكن أن يضيع كان جالبا للارتباك. فقد شملت البيانات التي هي عرضة للضياع جميع البيانات الحكومية بما فيها السجل المدني الذي هو المرجع الأساسي لهويات المواطنين السودانيين، إضافة للسجلات العقارية وملكية الأراضي، وقاعدة بيانات مسجل الشركات، وقاعدة بيانات امتحانات السودان، وتوثيقات شهادات التعليم العالي و سجل الجامعات، و مصلحة الإحصاء، وقواعد بيانات الاحتياجات الطبية و شبكة توزيعها، وغيرها من المراجع الحيوية والتي يمثل كل منها مرجعية لا غنى عنها في الجانب العام، و مهمة في الجانب الخاص لإثبات الملكية الشخصية وملكيات الشركات والكيانات القانونية من جمعيات وشركات ومنظمات.استخلاصا من النتائج المباشرة للحرب وامتداد ميادينها لتشمل قطاعات عدة تتعدى الصراع العسكري التقليدي، نجد أنه قد وضح بجلاء محاولات السيطرة على عصب وأعصاب الاقتصاد والتدفقات المالية المرتبطة به. أي بالتجريد المبسط هو الصراع على المال أو ما من شأنه التحكم في المال. والحقيقة أن الانقسام الحاصل الآن في ميدان خدمات الاتصالات بالسودان كان فعليا هو أول القطاعات التي تم تنفيذ الانفصال فيها بصورة عملية؛ تمت على ارض الواقع، قبل أن تظهر للعلن قوائم منع البعض من استخراج الجوازات والأوراق الثبوتية، وربما رسخت لمفهوم الانفصال السياسي لاحقا.الحديث عن خدمات الاتصالات فهو بالضرورة حديث عن أهم القطاعات المرتبطة بالاتصالات وأوَّلها إيرادات مصلحة الضرائب بما يضمن تدفق الايرادات الضريبية من خدمة الاتصالات، وثانيهما استمرارية عمل القطاع المصرفي والخدمات المصرفية عبر التطبيقات البنكية، التي تمكن معظم السودانيين من انجاز الكثير من المعاملات المالية، وخصوصا المرتبطة باستقبال التحويلات من الأهل والأصدقاء، بل والمنظمات الخيرية خارج السودان، وتغنيهم عن حمل الكاش الذي يعتبر من عوامل الخطورة نسبة لانعدام الأمن وكثرة السرقات، بل والنهب المسلح. وزاد الأمر حساسية حينما تم استبدال العملة في مناطق سيطرة الجيش دونا عن مناطق سيطرة الدعم السريع، والذي ما تزال العملة القديمة مستعملة في مناطق سيطرته! الشي الذي ضاعف في لحظة الكتلة النقدية المتداولة في أغرب حالات التضخم المصنوع.من المعلوم أن وجود الاتصالات في منطقة جغرافية مترامية الأطراف يقلل من هدر المحروقات، ويقلل من تكلفة التنقل الذي يمكن الاستعاضة عنه بالمكالمات، أو بتوفير المعلومة في زمنها ومكانها. ولذلك فإن فقدان خدمات الاتصالات يكلف المواطن تكاليفا تُضاف الى تكاليف الحرب المباشرة.قطاع الاتصالات في السودان ظل ولفترات طويلة يمثل موردا هاما وسريع التدفق لمصلحة الضرائب، والتي تجني أموالا تفوق أرباح شركات الاتصالات بكثير! هذا الارتباط بين خدمة الاتصالات والأموال، سواء في جانبها في تطبيقات المصارف، أو في كونها موردا لمصلحة الضرائب جعل قطاع الاتصالات في أتون الحرب وميدانا أساسيا من ميادينها. هنا لا ننسى دخول عامل مهم وربما هو الذي ابطأ إحساس المواطن بفداحة فقدان خدمة الاتصالات، وهو دخول الإنترنت الفضائي من شركات مثل (ستارلنك Starlink)، وهي بطبيعتها خارج سيطرة السلطات التي تحكم السودان كليا، والمفارقة أن تشغيلها في أي من مناطق الحرب يتم تحت حماية مباشرة من الجهات العسكرية، فلا يمكن تصور وجود جهاز ستارلنك بدون أن يكون مرتبطا بشكل ما مع أفراد عسكريين. دخول الإنترنت الفضائي خلق حالة من حالات الاستغناء عن الخدمات الارضية، لكن بالمقابل زاد من كلفة الاتصال والتواصل. الإنترنت الفضائي، والتوسع في استعمالات الطاقة الشمسية؛ وعند تعاضدهما معا شكَّلا عاملاً غيِّر من قواعد اللعبة كليا في آليات الوصول للجمهور، وتمكينه من تزويد هواتفهم المحمولة بالطاقة الكهربائية وربطها بشبكة الانترنت العالمية، خاصة في المناطق التي تتزايد فيها كلفة توليد الكهرباء؛ إما لكونها نائية، أو لندرة المحروقات وغلاء التكلفة. هذا المتغير الجديد سيكون عاملا مهما في سباق المنافسة لاحقا إذا استأنفت شركات الاتصالات عملها العادي.بالرغم من أن الاتصالات العسكرية تعمل في ترددات وبأجهزة تختلف عن المستعملة في النطاق التجاري، الا أن قطاع الاتصالات التجاري العادي ظل هو المنجم الكبير والأساسي والغني لنشاط الاستخبارات العسكرية، لا سيما في زمن الحرب، أو ما قبلها من زمن التربص المتبادل بين طرفي القتال، سواء في جانب التتبع او التصنت لمدنيين، أو للتصنت للمكالمات بين العسكريين عبر شبكات تجارية، أو عبر اختراق الأجهزة الذكية. عليه فإنه نلاحظ أن الاتصالات تمثل ميدانا يختلط فيه العسكري بالمدني، ونرى بوضوح أن القرار حولها يتحول في زمن الحرب إلى قرار عسكري أمني بالدرجة الأولى، وتأتي بعده الأبعاد الاقتصادية. القرار العسكري نفسه يعتمد بالدرجة الأولى على تحديد اجابة واضحة لسؤالين، أولهما من يتحكم في (قلب الشبكة) بصورة مركزية؟ وثانيهما، من يسيطر على المحطات فيزيائيا أو جغرافياً؟ إذا لم تكن الجهة المسيطرة محققة للشرطين أعلاه معاً فإن الجهة الأخرى قادرة على قطع الخدمة. أي أن النتيجة واحدة. يأتي التفوق في إمكانية تشغيل الشبكة من أطرافها والعمل لخلق (قلب بديل) وهي امكانية فنية موجودة، ولها تجارب ليست بعيدة عنا جغرافيا، وليست بعيدة زمانيا، فقد حصلت في ظروف مشابهة في شرق ليبيا في فترة الثورة ضد القذافي واستغرقت اسابيع فقط لإنشاء (قلب بديل) تم به تشغيل الاجهزة الطرفية التي كانت في بنغازي بالمنطقة الشرقية خارج سيطرة القذافي.نظرا للارتباط الوثيق بين الاتصالات والقطاع المصرفي، فما يمكن قوله عن السيطرة والتحكم على شبكات الاتصالات ينطبق كذلك على السيطرة على النظام المصرفي الرئيسي الذي يتحكم في عمليات التحويلات والمقاصة وغيرها بين المصارف التجارية. بالتحكم في النظامين المصرفي والاتصالات وجعلهما يعملان، يكون من اليسير جني الأموال عبر حركة التجارة اليومية، وجني الضرائب بصورة مباشرة من شركات الاتصالات التي تبيع خدماتها للمواطنين. من الناحية الأخرى في الصراع الدائر، ماذا سيتبقى امام الطرف غير المسيطر مركزيا على أي من النظامين؟ سيجد نفسه – ولحين خلق أنظمة منفصلة – بدون خيارات حقيقية، ولذلك يلجأ لوقف خدمات الاتصالات لكيلا يخدم غريمه ويرسل له الأموال من المناطق التي يسيطر عليها. بمعنى أنه حتى ولو لم يقم الطرف المسيطر مركزيا بقطع الخدمة، فإن الطرف غير المسيطر سيقطعها بنفسه! ببساطة، فإن اي جهة مسيطرة على منطقة لا اظنها تحبذ او تمهد أن يستفيد خصمها العسكري من الموارد المدفوعة في مناطق سيطرتها. ليس فقط في ميدان الضرائب، ولكن كذلك في ميادين مثل منتجات الصادر كما في الذهب والصمغ العربي وفي نقاط الجباية (ضرائب مباشرة وجمارك وإتاوات). ولذلك فإن الانفصال الرقمي سيستمر لفترات طويلة وربما يستمر بعد سكوت البنادق لزمن ليس بالقصير مالم يكن هناك توافق جديد لتقاسم العائدات كما حدث في قطاع النفط!في هذا الصراع، فإن الخاسر الأكبر بعد المواطنين والحلقة الأكثر هشاشة هي شركات الاتصالات نفسها. فهي في حال الانفصال غير المعلن تجد انها تحت ضغوط لا يمكن تفاديها، فحال الصراع هنا ليس كما كان في الفترة التي سبقت انفصال الجنوب مثلا، بل هو حال يجعلها في خانة المتعاون مع العدو إن جاز التعبير. فمن الصعوبة تصور إمكانية عملها في الجهتين. وعلى كل حال فالشركات مرغمة في الانصياع حتى وإن تدثر خطابها بدثار الوطنية أو أي من الشعارات الشبيهة. في التجربة السابقة في حالة انفصال جنوب السودان، ورغم أن الانفصال كانت نتيجة لاستفتاء دستوري مستند على اتفاقية سلام دولية، الا أن شركتين من أربع شركات هي فقط التي استطاعت أن تواصل العمل بجنوب السودان في الدولة الجديدة! ماذا يعني هذا في مجال صناعة الاتصالات؟ يعني أن شركة او شركات مغامرة ومقامرة ستدخل وربما ترث – الى جانب السلطة القائمة – أبراجا، وبنية تحتية، وربما موظفين وعمال جاهزين! وربما نشهد نفس ملاك الشركات السابقة يدخلون بأسماء جديدة!يبدو المستقبل قاتما ولا يمكن تصور حلول سلسة في المجال إلا بوجود إما حل سياسي شامل، أو اتفاقيات تجارية يتم فيها تقاسم الارباح على غرار تجربة النفط الجنوب سوداني وما رشح من ترتيبات ثلاثية مكنت من استمرار تدفق البترول للصادر وللاستفادة داخل السودان.من المؤسف ألا نجد وزنا لمعاناة المواطنين لفقدانهم لخدمة الاتصالات لكونها حيوية وهامة، وأن حسابات الصراع والمكاسب المادية تعلو على ما سواها تحت نيران الحرب.خبير في مجال الاتصالات الدولية وتقانة المعلومات‏ammarhamoda@gmail.comThe post الانقسام الرقمي في السودان appeared first on صحيفة مداميك.