الفاشر… مذبحة انتظرها الجميع

Wait 5 sec.

حمّور زيادةيكتب بهاء طاهر في روايته “واحة الغروب” (دار الشروق، القاهرة، 2008) “لا أفهم معنى للموت. لكن ما دام محتماً فلنفعل شيئاً يبرّر حياتنا. فلنترك بصمةً على هذه الأرض قبل أن نغادرها”***ما سقطت مدينة الفاشر في إقليم دارفور غربي السودان، لكنّها استُشهِدت. صمدت المدينة قرابة أعوام ثلاثة. تصدّت لمئات الهجمات. أكلها الجوع وزحفت المجاعة مع تقدّم قوات الدعم السريع، لكنّها ظلّت صامدةً حتى لحظتها الأخيرة. اللحظة التي وصفها قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في خطابه بعد حوالي 36 ساعة من استباحة المليشيا المدينة بـ”انسحاب الجيش إلى مكان آمن” (!).لم يكن للمدنيين مكان آمن. لم يفكّر أحد في تسليم المدينة سلماً وصلحاً مقابل خروج المدنيين ثمّ العسكريين منها. انسحب الجيش إلى مكان آمن. فدخلت “الدعم السريع” تحمل غضبها وإجرامها، تتذكّر الإذلال الذي تعرّضت له شهوراً طويلةً على أيدي المدافعات والمدافعين عن المدينة. قتلت نحو 400 مواطن داخل المستشفى السعودي بالفاشر. أطلقت الرصاص على المرضى والجرحى في أسرّتهم. وتباهى الجنود بتصوير أنفسهم يقتلون العزّل والمدنيين. تسجيلات مصوّرة لرجال يلهون بأرواح من لا يعدّونهم بشراً. يسمحون لك بالذهاب. أسرع… اركض… لا تتوقّف… ثمّ تسمع الرصاصات القاتلة. لن تسمع ضحكة القاتل المرحة، لكن التسجيل المُصوَّر سيحفظها. سنسمع أحد القتلة ينادي: “اقتلوا العبيد”.ولأن “الدعم السريع”، وحلفاءها في “تأسيس”، يعلمون أن جنودهم لن يتوقّفوا عن عادتهم المُحبَّبة بتصوير جرائمهم، أغرقوا الدنيا بمئات الصور والتسجيلات المزيّفة والمعدّلة بالذكاء الاصطناعي، في عملية تشويش واسعة على الرأي العام، وفرض أوهام قائد “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي خرج في بيان النصر يحكي عن الاحتفالات العفوية في الشوارع لأهالي مدينتي الفاشر وبارا. الاحتفالات المتخيّلة في العالم الذي يعيش فيه حميدتي كانت مذابحَ مروّعةً في الفاشر، وقبلها بارا. بارا المدينة سيئة الحظّ التي انتهكتها “الدعم السريع” شهوراً، قبل أن يستردّها الجيش فيعاقب مدنيين بتهمة التعاون مع المليشيا، عادت إليها “الدعم السريع” الآن لتنكّل بمدنيين بتهمة التعاون مع الجيش.قضت “الدعم السريع” على أسر كاملة، وصفّت كل من أرادت لأيّ سبب، وبلا سبب. فالرعب هو ما تحبّ المليشيا أن يُعرَف عنها. ولأجل الرعب ترتكب قتلاً جماعياً سعت إليه طويلاً. ففي الإقليم المنكوب بصراعاته العرقية القديمة، صنع نظام الرئيس السابق عمر البشير المليشيا لتعزّز قوة القبائل العربية ضدّ القبائل الأفريقية. وبسبب محاولات الإبادة في الإقليم أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر قبض ضدّ عمر البشير ووزير دفاعه وآخرين. تعود “الدعم السريع” لترتكب الجريمة التي فشلت فيها سنوات، فتذبح مدينةً كاملةً بدم بارد بعد فشل الوساطات والجهود الدولية لفكّ الحصار عن المدينة. تجاهلت قرارات مجلس الأمن، واستخدمت التجويع سلاحاً شهوراً، فردّت السلطة العسكرية من بورتسودان بطرد مدير مكتب برنامج الغذاء العالمي مع مديرة عمليات البرنامج. البرنامج الذي يقدّم الدعم إلى ملايين السودانيين، وتعرّض عاملوه لانتهاكات “الدعم السريع”. تستهدف معونات البرنامج حوالي 24 مليون سوداني يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحادّ، لكنّ السلطة العسكرية رأت فيه عدوّاً، مثل رئيس بعثة الأمم المتحدة للسودان الذي اتهمه الفريق عبد الفتاح البرهان بتحريض نائبه حميدتي على التمرّد، ومنظّمة “إيقاد” والاتحاد الأفريقي، وغيرها… كلّها أعداء. فالسلطة العسكرية تعتبر نفسها في حرب دفاعية ضدّ العالم كلّه، الذي يتآمر عليها ويحاربها. صمدت الفاشر ما استطاعت، لكن القتلة استباحوها.ردّة فعل عالمية عنيفة حدثت تجاه الإبادة التي ترتكبها “الدعم السريع” في الفاشر، وتجاه التهجير القسري لمن بقي حيّاً، لكن لا يبدو أن شيئاً سيتغيّر على الأرض. وإن كان السلام في السودان بعيداً قبل هذه المذبحة، فإنه الآن أبعد، ينادي الدمُ الدمَ. وتستدعي المجزرة مجزرةً. مع هذه الجريمة يُمسي إقليم دارفور في يد حكومة “تأسيس” الموازية وأجزاء من إقليم كردفان، وتصبح وحدة السودان على حافة الغياب، إذ يتّفق ذلك مع رغبات كثيرين من الفاعلين السودانيين والإقليميين والدوليين.نعت تنسيقية لجان مقاومة الفاشر في منشور لها جميع سكّان المدينة، إذ ابتلعهم الغول. الغول ذاته الذي يأكل البلاد بلا توقّف. لا يعُرف حتى الآن بدقّة من بقي حيّاً في مدينتي الفاشر وبارا. ما زالت أعداد الضحايا تستعصي على الحصر، لكنّهم مثل ضحايا كل مذابح هذه الحرب، سيستخدمهم آخرون لتعزيز موقف وإثبات صحّة رأي.***“الله يعطيك البركة لا تقتلني”… قالها أحد ضحايا “الدعم السريع” متوسّلاً قبل مقتله.***The post الفاشر… مذبحة انتظرها الجميع appeared first on صحيفة مداميك.