يوسف الموصلي: الفنان الوطني وعرّاب الموسيقى السودانية

Wait 5 sec.

مهدي داود الخليفةحين نتحدث عن الموسيقى السودانية، لا يمكننا أن نغفل عن ذكر أولئك الذين صنعوا وجدانها وخلّدوا نغمها في ذاكرة الأجيال. وفي طليعة هؤلاء يقف الموسيقار يوسف الموصلي، ذلك الفنان الذي جمع بين الإبداع الفني والالتزام الوطني، بين رهافة الحس الموسيقي وصلابة الموقف السياسي.معرفتي به بدأت في قاهرة المعز، في زمنٍ كانت فيه القاهرة قبلةً للمبدعين السودانيين الذين حملوا في حقائبهم الوطن والحنين معًا. كنت ألتقيه كثيرًا مع صديقي العزيز أحمد يوسف في مكاتب شركة حصاد. ورغم أن معرفتي الشخصية به كانت متواضعة، إلا أنني أحمل له في قلبي محبةً كبيرة وتقديرًا لا حدّ له، لما يمثّله من صدقٍ فني وإنساني نادر.لم يكن الموصلي مجرّد موسيقارٍ مبدع يعيش في أبراجه الفنية العالية، بل كان مواطنًا منخرطًا في قضايا وطنه، يرى في الفن رسالة ومسؤولية، لا ترفًا ولا شهرة. كنت أظن، مثل كثيرين، أن الفنانين يعيشون في عالمهم الخاص بين المسرح والأضواء، حتى أدركتُ من خلال تجربتي معه ومع رفاق دربه مثل محمد وردي وسيف الجامعة، أن الفنان الحقيقي قادر على التضحية بكل شيء من أجل وطنٍ حرٍّ وديمقراطي.في عهد نظام الإنقاذ، لم يساوم الموصلي على مبادئه، ولم يتردّد في مغادرة السودان احتجاجًا على ممارسات القمع والظلم. وفي القاهرة، واصل نضاله ضد النظام عبر التعبئة الفنية والأغنية الوطنية التي كانت سلاحًا في وجه الاستبداد، حتى سقط النظام وعمّ فجر الحرية. لكنه ظل يقظًا، رافضًا أي انتكاسة تعيد الوطن إلى حكم العسكر، مؤكدًا دوماً أن “الفن لا يزدهر إلا في ظل الحرية”.يوسف الموصلي يتميّز بتكاملٍ فنيٍّ نادر؛ فهو شاعرٌ وملحّنٌ وصاحب صوتٍ دافئٍ يحمل عبق النيل وحزن الوطن. من أشهر أعماله أغنية “على قدر الشوق”، التي أصبحت جزءًا من الذاكرة الوجدانية للسودانيين على امتداد الأجيال. وقد اعترف به الإمبراطور محمد وردي وشاركه في أسطوانة “طفل العالم الثالث”، بجانب سلطان الفن الراحل مصطفى سيد أحمد، وهي شهادة فنية لا يمنحها الكبار إلا لمن يستحقها.يمثّل الموصلي الخط الوطني للفن السوداني: فنانًا ملتزمًا بقضية بلده قبل أن يكون ملتزمًا بفنه، مزج بين الجمال الموسيقي والواجب الوطني، بين اللحن والنضال، بين الفن والضمير. لا عجب أن يُوصف بـ “عرّاب الموسيقى السودانية الحديثة”، فقد ساهم في تطوير الأغنية السودانية وإدخالها مرحلة جديدة من الوعي الفني والوجداني، ناقلًا صورة السودان للعالم كما هي: أرض الجمال، والنيل، والسمر، والكرامة.لم يكن دوره مقتصرًا على الألحان والكلمات، بل تجاوز ذلك إلى بناء الوعي الوطني عبر الفن، وإلى الدفاع عن الحرية ضد الاستبداد، وعن الديمقراطية ضد عسكرة الدولة. ظل ثابتًا في مواقفه، مؤمنًا بأن الفنان الحقيقي هو ضمير أمته وصوت شعبه، لا يبيع قضيته مهما تغيّرت الأنظمة أو تبدّلت المواسم.في مدرسته تخرّج كثير من الفنانين الشباب الذين رأوا فيه نموذج الفنان المثقف، والإنسان الملتزم، والمبدع الذي يصوغ اللحن كما يصوغ الموقف، فيكون صوته مرآةً للشعب لا صدى للسلطة.إن الاستاذ الموصلي ترك للأجيال من بعده إرثًا من الجمال والموقف؛ إرثًا يُذكّر بأن الأغنية السودانية يمكن أن تكون منبرًا للحب والوطن في آنٍ واحد، وأن اللحن الصادق قد يكون أبلغ من البيان السياسي في لحظة صدقه.إن الشعب السوداني يحمل في وجدانه تقديرًا عميقًا لهذا الفنان الإنسان، الذي حمل على عاتقه رسالة الفن الملتزم، وأسهم في صياغة الذاكرة الموسيقية والثقافية للسودان المعاصر. يوسف الموصلي لم يكن يومًا فنانًا للزمن الجميل فقط، بل كان صوتًا لزمنٍ يحلم بالحرية، وينتصر للجمال والكرامة.نسأل الله أن يمنحه الصحة والعافية، وأن يبارك في ذريته، وأن يظل دائمًا رمزًا للفن الأصيل والالتزام الوطني، وأن يبقى نغمه شاهدًا على أن في السودان دائمًا من يغني للوطن لا للسلطان، وللشعب لا للحرب.The post يوسف الموصلي: الفنان الوطني وعرّاب الموسيقى السودانية appeared first on صحيفة مداميك.