عام على رحيل ود المكى

Wait 5 sec.

أحمد حيمورة٥٨ عاماً كانت تفصل بين يفاعة أبياته حين دفعه غرور الشباب الى مراقى الفخر فصدح بسؤاله المتباهى : من غيرنا يعطى لهذا الشعب معنى أن يعيش و ينتصر؟ ، و بين ليلة تكريمه حينما ردد معه أنداده الشيوخ، ذلك النشيد الأثير :باسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغنى. لكنهم و هم يهزجون معه بحماس كانوا يشعرون او يعلمون أن أكتوبر العظيم قد توارى و ربما بقى فى الوجدان فقط بعد أن كان فى غضبتهم منذ الأزل.منتصف ابريل عام 2022 دلفنا الى حديقة مركز التميز التابع لمجموعة دال لحضور حفل تكريمه ضمن فعاليات (منتدى دال الثقافي).كان مدخل المركز محروساً بعربتين من عربات الدعم السريع التى أضحت وقتها ،أحد مظاهر شوارع الخرطوم شاهدة على ذلك الوهن الذى اعترى ثورة ديسمبر منذ يومها الأول ، فقد كان تناقضاً بيناً ذلك الذى يجعل تكريم صاحب( أمتى) مخفوراً بعسس الجنجويد.كان جيل العطاء ذلك المستجيش ضراوة حاضراً متحلقاً فى حلقاتٍ، فى انتظار الدخول الى صالة الاحتفال يتعكز كثير منهم على عصى الخيزران و الأبنوس و فيهم من يتوكأ ظله ..شعرهم المنفوش ابان عنفوانهم تبدل بعمامات تخفى ما تحتها، كما اختفت تلك النظرات الجريئة وراء العوينات الزجاجية. جلهم كان يراوح بين الأمل المتعب واليأس الوثير الذى لم يتعاونوا عليه و لم يطردوه، رغم أن الشاعر اوصاهم بألا يهادنوه.و قال عنهم:(راح أبناء جيلى لجنتهم او جهنهمو البنات اللواتى بكينا بأبوابهن تحولن جيلاً قديماو تقولون لى : لايجوز التغزل فى جدة سبقتنا الى عالم النسل ).الابناء و البنات اصحاب الكر و الفر كانوا حضوراً أيضاً ،جاءوا تلفهم خيبة الامل بعد سرقة ثورتهم و لما تتحول كدماتهم التى أحدثتها هراوات الشرطة الى سجل تاريخى بعد. كان لهم أُكتوبرهم المشئوم مثل ما كان لأبائهم أُكتوبرهم المظلوم و بين ذلك الظلم و هذا الشؤم تمددت حكاوى تلك التحلقات السابقة للاحتفال.داخل الصالة ،جاء كمال الجزولى و قد ناهز الخامسة و السبعين و تحدث عن الغريب و الطريف فى حياة وادب المحتفى به. و لم يكن يدرى -رحمه الله-أنه سيغادر قبله. و جاء عالم عباس و قال الكثير عن عبقريات أخرى للشاعر .و أرسل من على البعد عبد السلام نور الدين تداعيات و تعليقات عن ديوان( أمتى).تحدث غيرهم و غيرهم ،شعراء شباب أدلوا بدلوهم، و شاعرات شابات زادوا بعض الرحيق رحيقاً على بعضه. أطل نشيد أكتوبر الأخضر عبر الكمان مع غناء الحضور ،ثم تشاركه ابوبكر سيد احمد و عاطف عبد الحى و ردده نفس الحضور مرة أخرى هتافاً و تظاهراً .تنادى أبناء الأبيض فى ذلك اليوم .يحمل لوائهم الحلاج الذى احتفى بالشاعر و احتفى بموطن الشاعر و بمدينته و شارعه و بيته و أهله و أشياعه. كان فيهم ممن أشفقوا عليه من ذلك التكريم الولائى و لم يرتضوا أن يقبله باسم إرضاء و جبر خواطر بعض العشيرة، و باسم حبه لعروس الرمال رغم وضوح انتهازية ذلك الوالى .حينما اعتلى المسرح ،لم يستهل بتلك الأبيات التى أصبحت( ترويسة) الجميع عند المخاطبة، (يسخو الفؤاد ويغتني فيضا من البهج المريح بساعة تحتاطني فيها سواعدكم وأمدد نحوكم كفّيَ عريانين إلا من معزتكم وحب عيونكم).كانت الخرطوم التى صاح فى أذنها منذ لقاءه الاول بها قائلاً : (أنت لى )، هى محور رد الجميل فى تلك الليلة …إعتلى المسرح و لسان حاله ينطق بالسؤال النبؤة :(ماذا تخبئين لى خلف السدوف المطبقهو بعد هذه اللفحة من سمائك المحترقةماذا تخبئين لى وما الذى تخبئين عنى).ثم قرأ علينا و اخذنا فى رحلته الى خرطومه الأخيرة التالية لخرطومه الأولى و الثانية لكنها ظلت هى الخرطوم، يهرب منها و يهرب اليها؛ هى عنده طفلة المدائن و سيدة القرى التى :(يغضب الصيف فيهاو تجلدها الشمس كالزاجرةثم تأتى الاماسى ساعية بالنسيم الخفيفتطيب خاطرهاو تنفض عن و جنتيها الغبار)كانت تنتظره فيها انتقادات متطرفة و لقاءات تلفزيونية سمجة مفخخة، أسلمته لكشكول من العلل و هيأته لحرب العبث التى كانت على المشارف ، ثم أخرجته الى المهارب مثل الجميع، ليقول عصفور قلبه نائحاً :( سنرتحلُ الآنَعن هذه الدوحة المقفرةسوف نترك أشلاء من قتلواوسلاسلَ من وقعوا في الإسارْسوف نتركُ فوجَ الصباياوأعشاشنا في ضواحي النهارسوف نتركُ للبربر المنتصرما تبقى على ساحة المجزرة).جاء فى وصف رحلته تلك ذكر مدينة القاهرة، حينما ظل يعد الساعات التى تفصله عن الخرطوم الأثيرة:(ثم فكرت، للمرة الالف فكرتمن بعد ان نصل القاهرةلا يعود سوى ساعتين من الوجدالقاك بعدهما فى المطارما كان فى باله أن يرجع اليها نازحاً مستشفياً، يطوى صفحة مجايليه الذين مضوا و يخاطب الباقين أن ترجلوا : (شخنا،اتعس منا الواحد منا). و مع ذلك ظل يأمل فى المستقبل و فى الشباب ،:(هذه سنة الكونأن يتفتح ورد وفي موسم الصيف يذبل شيئا فشيئاثم يولد ورد جديدإن ما تشهدون من الورد نحن غرسناهنحن سقيناهواليوم هب ينافح عنافاذكروا انه ليس من العدل ان تفصلوا الورد عن غصنهوعن ِشوكه وبتلاتهمعنا الآن سرب النساء البواسلسرب البنات الامازون إذ يتلقفن قنبلة الغاز طازجةثم يبعثنها وهي ملفوفة في الدخان لمن ارسلوها.بعد حين سينجبن جيلا جديداويدربنه على السير نحو النجوم القصيةالى حيث لا جوع أو مرضاً أو مهانةالى حيث يلمع في الأفق بيرقنا من جديد)مضى محمد المكى إبراهيم فى نهاية سبتمبر عام 2024 ، فى احدى مستشفيات القاهرة فاصلاً جمره المتوهج عن صندل الشعر الزكى، و تاركاً لنا الأمل فى أن (تخرج البيارق بيضاء بيضاء من شرفات المآذن ، و المعدات ترجع هادئة للمخازن، و الجنود يكفون عن قصص القتل و الذبح و الاغتصاب.)ويعلن… أنه (لا قصائد فى زمن الحرب تروى سجل البطولة).رحمك الله ايها الشاعر المبدع .The post عام على رحيل ود المكى appeared first on صحيفة مداميك.