لكنَّنا جرّبنا الدقَّ على جدران الخزَّان

Wait 5 sec.

حمّور زيادةفي نهاية روايته العظيمة “رجال في الشمس”، يختم غسّان كنفاني العمل بسؤال تردِّد الصحراء صداه: “لماذا لم يدقُّوا جدران الخزَّان؟ لماذا لم يقرعوا جدران الخزَّان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟”، لكنَّنا ظللنا في السودان ندقُّ ونقرع لنحو ألف يوم من الحرب والموت والدمار. تكمل المأساة السودانية أيامها الألف الأولى في التاسع من الشهر المقبل (يناير/ كانون الثاني)، ولا نعرف كم ألفاً أخرى تخفي لنا الحرب؟ لكنَّنا عرفنا مرارة التي انقضت.تفتقر الحرب السودانية إلى تقديرات دقيقة للقتلى، فتتراوح الأعداد (قبل مجزرة الفاشر) بين 30 ألفاً و150 ألفاً. وكلُّها إحصاءات قديمة، إذ يصعب حصر الموت الذي تخلِّفه المذابح والمعارك المنتشرة في أغلب البلاد، كما أدَّى انهيار الخدمات الصحِّية، وتفشِّي حمَّى الضنك والكوليرا، مع انعدام الأمن الغذائي، وانتشار الجريمة والعنف والسلاح، إلى مضاعفة أعداد الضحايا. وانتشرت المقابر الجماعية في الأحياء السكنية، وفي الساحات، وتحلَّلت جثث داخل منازلها، كما لاحق الموت النازحين (بلغ تعدادهم نحو 12 مليون نازح ولاجئ) في طرق التهريب البرية بين السودان ومصر، فدفن المُهرِّبون والأهالي مئات من الهاربين الذين لم يبلغوا مأمنهم. ولقي الموت بعض من طلبوا الأمان في معسكرات النازحين بتشاد وإثيوبيا وغيرهما بحوادث عنف وهجمات إجرامية.لكنَّنا لم نمت في صمت. لقد قرعنا جدران الخزَّان. صرخنا وسمعونا. ثم رأونا. لقد رأى العالم دماءنا من الفضاء. صوَّرت الأقمار الصناعية مذابح الجنينة، ثم الفاشر. لم نكن مثل أسعد ورفاقه (شخصيات رواية “رجال في الشمس”)، سمع العالم دقَّنا على الجدران. منذ الأيام الأولى للحرب دعا الاتحاد الأفريقي الطرفَين لوقف القتال، وأعلنت الهيئة الحكومية للتنمية لدول شرق أفريقيا (إيقاد) مبادرةً لوقف القتال. وحاول بعض القادة الأفارقة زيارة الخرطوم، لكنَّ الجيش السوداني أعلن أن العاصمة غير آمنة لاستقبالهم. ثم استضافت القاهرة قمَّةَ دول جوار السودان التي أنشأت آليةً على مستوى وزراء الخارجية لبحث الحلول، بينما كانت السعودية تستضيف مفاوضات إنسانية بين الطرفَيْن في مدينة جدّة برعاية سعودية أميركية. وتدخَّلت الأمم المتحدة داعيةً لوقف القتال، وحذَّر الأمين العام للأمم المتحدة أنه لا حلَّ عسكرياً في السودان، وأن الطرف الذي سيخرج منتصراً سيجد نفسه معزولاً وأمام عقوبات دولية. ثم لمّا بدا التلويح غير كافٍ، بدأت العقوبات الأممية والأميركية تنزل على المؤسّسات ثم القادة، حتى بلغت قائد الجيش، وقائد “الدعم السريع” وأشقاءه، وزعيم الحركة الإسلامية السودانية، ومدير جهاز المخابرات الأسبق المثير للجدل صلاح عبدالله (قوش).بعكس أبي خيزران، الذي خشي في رواية كنفاني أن يخبر عن الذين يموتون داخل الخزَّان، تدخَّلت دول عديدة لإنقاذنا، بداية من الدعوات لوقف الحرب، مروراً بالوساطات والضغوط، وليس انتهاء بالعون الإنساني والإغاثة. لكن كيف تقف حرب لا يريد لها طرفاها أن تقف؟ وكيف تدخل إغاثة بين متقاتلين لا يعنيهم أمر الممرَّات الإنسانية؟ وماذا يملك لنا العالم أكثر من الاتفاقات التي وقَّعها الطرفان ثم تنكرا لها؟ لم يحفظ الطرفان اتفاق جدّة للقضايا الإنسانية، ودفنا اتفاق المنامة الذي وقَّعه مساعد قائد الجيش الفريق شمس الدين كباشي مع الرجل الثاني في قيادة “الدعم السريع” عبد الرحيم دقلو. جاءتنا الدول، عربها وأفارقتها وأوروبيوها وأميركانها، يتوسَّطون ويحملون المقترحات. دعت “إيقاد” قائد الجيش وقائد “الدعم السريع” إلى اللقاء، ثم لا شيء.بعد نحو ألف يوم من القتال لا تضيق دائرة الحرب، بل تتسع. العاصمة التي بدأ فيها القتال هُدم جلُّها، ونزحت شرقاً إلى مدينة بورتسودان، وقامت تنافسها غرباً عاصمة لقوات الدعم السريع في نيالا. وبعد الخسائر والضحايا يظلّ المطروح للاتفاق من المجتمع الدولي لا يختلف كثيراً عما تعنَّت ضدَّه طرفا الحرب في العملية السياسية عام 2022، ذلك التعنُّت الذي انتهى بحرب إبريل (2023)، ولا يختلف عمَّا ظلَّ يُطرَح منذ أيام الحرب الأولى.لقد سمع العالمُ الدقَّ على الخزَّان. لكنَّ ذلك لم يوقف موتنا.The post لكنَّنا جرّبنا الدقَّ على جدران الخزَّان appeared first on صحيفة مداميك.