لماذا يرفض الإسلاميين التعامل مع المبعوثين الدوليين و اللجوء الي تعدد مسارات الحل

Wait 5 sec.

مهدي داود الخليفةمنذ قيام نظام الإنقاذ في يونيو 1989، ظلّ الخطاب الذي تنتجه منصّات الإسلاميين يدور في دائرة واحدة لا تتبدل: تحويل كل نقاش وطني حول العدالة والانتقال والإصلاح السياسي إلى معركة مصطنعة عنوانها “السيادة الوطنية” و”التدخل الخارجي”. ومع أن هذه الشعارات تبدو في ظاهرها دفاعاً عن الاستقلال الوطني، فإنها في حقيقتها ليست سوى استراتيجية منظمة لإخفاء الأزمات البنيوية التي يعيشها التنظيم، وتبرير القمع الداخلي، وحماية الشبكات الاقتصادية والأمنية التي يتغذى عليها.واليوم، تتجلى هذه الظاهرة بوضوح أكبر في سلوك الحكومة الحالية برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان التي تُماطل بصورة منهجية في الوصول إلى وقف الحرب، وتدفع نحو تعدّد المبادرات والمسارات السياسية لا بقصد الوصول لحل، بل بهدف إرباك المشهد، وتشتيت الجهود، وتمديد عمر الصراع.إطالة أمد الحرب باتت – في تقديرات هذه السلطة – وسيلة لتحقيق هدفين رئيسيين:1. محاولة القضاء النهائي على قوات الدعم السريع عبر الاستنزاف الطويل، وليس عبر اتفاق سياسي أو ترتيبات أمنية.2. التخلّص من أعباء الدولة الأساسية: التعليم، الصحة، البنى التحتية، ورواتب الخدمة المدنية… إذ يتيح استمرار الحرب للحكومة التحلّل من مسؤولياتها بحجة “الظروف الاستثنائية”، بينما تستطيع تدبير الأموال الضخمة للصرف العسكري، لكنها تعجز، في المقابل، عن توفير الإنفاق على المدارس والمستشفيات والكهرباء والمياه ورواتب المعلمين والأطباء.هذه المفارقة تُظهر بوضوح أنّ الحرب بالنسبة للسلطة ليست عبئاً، بل أداة حكم، وأنّ السلام الحقيقي يشكّل تهديداً وجودياً لها.رغم صدور عشرات الوساطات الإقليمية والدولية منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، تواصل السلطة تقديم نفسها كطرف “منفتح على جميع الحلول”، بينما تعمل في الواقع على إفراغ كل مبادرة من محتواها، وذلك عبر المماطلة، وإعادة التفاوض من الصفر، أو إطلاق مسارات موازية تُضعف العملية الأساسية.من أبرز المبادرات التي تعاملت معها السلطة بهذه العقلية:اتفاق جدة – 11 مايو 2023كان أول محاولة جدية للوصول إلى وقف إطلاق نار وممرات إنسانية، لكنه تعرّض للتعطيل عبر خروقات ميدانية متكرّرة وتراجع مفاوضي السلطة عن الالتزامات.مبادرة الإيقاد – أبريل 2023بدأت الإيقاد بآلية رئاسية ضمّت جيبوتي وكينيا وجنوب السودان، ولاحقاً إثيوبيا.كل محاولاتها اصطدمت برفض الحكومة أي وجود دولي للرقابة على وقف إطلاق النار أو الالتزام بخارطة طريق ملزمة.مبادرة الاتحاد الأفريقي – مايو 2023تعاملت الحكومة مع الاتحاد بنهج مزدوج: الترحيب الخطابي، والمقاومة العملية لكل خطوة تؤدي إلى رقابة دولية أو ترتيبات انتقالية.مبادرة دول جوار السودان – 13 يوليو 2023بادرت بها مصر، ورحبت بها الحكومة ظاهرياً، ثم جرى إفراغها من مضمونها عبر إطالة النقاش وتفريخ مسارات جديدة.اللجنة الأفريقية رفيعة المستوى – يناير 2024تشكّلت بقيادة السيد محمد بن شمباس لدعم عملية سياسية سودانية شاملة.إلا أنّ الحكومة قاومت أي جدول زمني للانتقال، ورفضت رعاية حوار مُلزم.اتفاق المنامة – يناير 2024لم تتعامل الحكومة معه كتسوية، بل كأداة لشراء الوقت وإعادة التموضع العسكري.مبادرة جامعة الدول العربية – مارس 2024دعت إلى حوار شامل برعاية عربية، لكن الحكومة تجاهلتها لصالح تحركها الأحادي مع حلفائها الإقليميين.المبادرة التركية – يناير 2025رغم العلاقات الوثيقة بين الخرطوم وأنقرة، لم تُمنح المبادرة فرصة حقيقية، لأنّها تضمنت فجوة رقابية لا ترغب السلطة في التعامل معها.مبادرة الرباعية – سبتمبر 2025تُعد مبادرة الرباعية (الولايات المتحدة – المملكة المتحدة – السعودية – الإمارات) حالياً أهم المسارات وأكثرها قدرة على فرض التزامات حقيقية. وتتمتع المبادرة بخصائص تخشى السلطة تبعاتها:امتلاك الأطراف الأربعة وزناً سياسياً واقتصادياً يتيح الضغط الفعّال.سعيها إلى وقف إطلاق نار مُلزم بآلية مراقبة مشتركة.تخطيطها لإطلاق عملية سياسية جديدة تُقصي الجهات المعرقلة.إمكانيتها فتح ملفات حساسة: جرائم الحرب، اقتصاد الذهب، انتهاكات حقوق الإنسان، وشبكات التمويل غير المشروع.ولهذه الأسباب، تتعامل السلطة مع مبادرة الرباعية بوصفها تهديداً وجودياً، وتتحرك لعرقلتها عبر:التشكيك في نوايا الرباعية وربطها بمحاولات “التدخل في السيادة”.الترويج ان المبادرة تهدف لتصفية القوات المسلحة لإرباك المشهد.الادعاء بان الحل عسكري ثم تاتي الحلول الاخري.السعي لشق صف الرباعية عبر تحالفات ثنائية او التهديد رفض احد اطرافها .ورغم الترحيب الخطابي بالمبادرة، فإن سلوك السلطة العملي يمضي في الاتجاه المعاكس تماماً؛ إذ تعمل منهجيّاً على إفراغها من مضمونها وعرقلة مسارها. وهكذا تتحوّل المبادرة، التي كان يُفترض أن تكون فرصة حقيقية لإنقاذ البلاد ووضع حدّ للحرب، إلى ساحة جديدة لمقاومة أي التزام دولي أو رقابة خارجية من جانب الحكومة، بما ينسجم مع نهجها الدائم في تعطيل كل مسار يمكن أن يقود إلى سلام مُلزِم أو إلى تقليص نفوذها.منذ 1989، أقام الإسلاميون سرديتهم الكبرى على صناعة “الخارج المعادي” بوصفه تهديداً دائماً. ولقد وُظّف هذا التهديد لأربعة أهداف مترابطة: تثبيت شرعية بقاء النظام عبر الادعاء بأنه الحارس الأخير للسيادة الوطنية، صرف الأنظار عن الانهيار الاقتصادي والسياسي بتحميله للعقوبات والمؤامرات، تعبئة القواعد التنظيمية عبر رفع مستوى الاستنفار الأيديولوجي، وشيطنة المعارضة وربطها بالعمالة. لم يكن هذا الخطاب موجهاً للمجتمع الدولي بقدر ما كان وسيلة لتكييف الداخل والسيطرة عليه.ويتجدد هذا الخطاب في الهجوم على المبعوث الأمريكي مسعد بولس. ولم يكن ذلك حدثاً طارئاً أو ردّ فعل محدوداً، بل حلقة جديدة في سلسلة طويلة تعود إلى عهد الإنقاذ، رفض خلالها النظام التعامل مع ما يقارب خمسة وعشرين مبعوثاً أممياً، لم يكن ذلك موقفاً مبدئياً ضد التدخل الدولي، بل محاولة واعية لقطع كل قناة يمكن أن تُفضي إلى تقييم ميداني لانتهاكات حقوق الإنسان، أو متابعة تنفيذ قرارات مجلس الأمن، أو التحقيق في دعم مجموعات إرهابية كانت على صلة بالتنظيم الإسلامي، أو كشف الارتباطات الخارجية التي شكّلت عبئاً سياسياً، أو فضح اقتصاد الظل وتهريب الذهب وغسيل الأموال. لقد كان كل مبعوث يُرى باعتباره “تهديداً محتملاً لبقاء النظام”، لا مجرد ممثل لهيئة دولية.وقد مارس النظام انتقائية محسوبة:هاجم و طردوا يان برونك لأنه طالب بوقف القصف الجوي في دارفور.ضيّق على أندرو ناتسيوس لأنه كشف التلاعب في ملف الإرهاب.وحارب مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان عندما رفع تقارير عن التعذيب والإخفاء القسري.لم يكن معيار الرفض هو مبدأ “السيادة”، بل الخوف من الرقابة ومن كشف البنية العميقة للفساد السياسي والاقتصادي.وفي أكثر مراحل هذا السلوك خبثاً، مارس الإسلاميون انتقائية واضحة: يقبلون المبعوثين الذين يمكن التحكّم فيهم أو توظيفهم سياسياً، ويرفضون من يتمتع بصلاحيات واسعة أو يستند إلى موقف قانوني صارم.وفي عمق هذا السلوك يكمن خوف حقيقي من أي مسار سلام جاد يمكن أن يقود إلى تقليص السلطة، أو إصلاح القطاع الأمني، أو وضع ترتيبات لوقف إطلاق النار تحت إشراف دولي، أو فرض التزامات تُضعف القبضة السياسية والاقتصادية للتنظيم. ولذلك لم يكن استعداء المبعوثين تعبيراً عن وطنية، بل جزءاً من استراتيجية تعطيل عمليات السلام وإعادة تشكيلها وفق حسابات النظام وحده.ومع مرور الزمن تحوّلت هذه الاستراتيجية إلى مشروع كامل لإعادة صياغة معنى الصراع. فمنذ 2003، بذل النظام جهداً منظّماً لتحويل المسألة من جرائم حرب وانتهاكات واسعة إلى “صراع على السيادة” بين السودان والمجتمع الدولي. ورغم أنّ التدخل الدولي كان مرتبطاً بالفظائع الإنسانية، إلا أن الإنقاذ استطاعت نسبياً إقناع جزء من الرأي العام بأن الأزمة هي “عداء دولي” وليست مسؤولية داخلية.وبموازاة هذا المسار، طوّر الإسلاميون تكتيكاً آخر لا يقل خطورة: تعدد المبادرات. فحين يعجزون عن منع المسار السياسي، يلجأون إلى إرباكه عبر خلق مبادرات بديلة، أو فتح مسارات موازية، أو إطلاق دعوات لحوار جديد كلما اشتد الضغط الدولي. هذا التكاثر المقصود للمبادرات لم يكن تعبيراً عن رغبة في الحل، بل عن رغبة في تعطيله. الهدف هو اللعب على الزمن، إضعاف الزخم الدولي، وإعادة تشكيل الطاولة كلما دنت لحظة التسوية. وهكذا يصبح “تعدد المبادرات” جزءاً من صندوق أدوات السلطة لمقاومة أي مسار جاد قد يؤدي إلى تقليص نفوذها أو كشف ملفاتها.وفي اللحظة الراهنة، وبرغم التغيرات العميقة التي يشهدها السودان، يعيد الإسلاميون إنتاج الأسلوب ذاته. فالهجوم على مسعد بولس ليس موقفاً معزولاً، بل انعكاس لخوف متجدد من عودة الرقابة الدولية، وفتح ملفات جرائم الحرب المرتكبة حالياً، والانزلاق نحو مسار سياسي قد يُفضي إلى انتقال لا مكان فيه للنظام القديم. ولأن التنظيم لا يمتلك رؤية سياسية ولا مشروعاً قابلاً للتطبيق، فإنه يعود إلى أداته المفضلة: صناعة عدو خارجي، وخلق مبادرات متناسلة، ورفع شعارات السيادة، لإخفاء غياب أي إصلاح داخلي.وهكذا يصبح الهجوم على أي مبعوث أممي، أو التشكيك في أي وسيط دولي، أو طرح مبادرة ثالثة ورابعة، آلية دفاعية جوهرية بالنسبة للإسلاميين، لأن وجود هؤلاء المبعوثين يعني ببساطة احتمال فتح ملفات لا يريدون لها أن تُفتح. ولذلك سيظل هذا الخطاب يتجدد، ما دام بقاء التنظيم مرهوناً بحماية شبكات المصالح، ومنع الرقابة، وتعطيل أي عملية سياسية تُعيد السلطة إلى الشعب.إنّ رفض الإسلاميين للمبعوثين الدوليين ليس موقفاً مبدئياً، بل هو تعبير عن بنية حكم تخشى الرقابة، وتستمد استمراريتها من الفوضى، وتعتبر الحرب وسيلة للحكم.أما تعدّد المبادرات فليس انعكاساً لتعدد الجهود، بل لسياسة متعمدة تهدف إلى تعطيل أي مبادرة يمكن أن تنجح.وتبرُز مبادرة الرباعية بوصفها الاختبار الأهم لهذه السياسة، إذ تسعي السلطة تعطيلها قبل أن تتحول إلى مسار دولي ملزم.وفي ظل استمرار هذا النهج، سيظل السودان عالقاً بين مبادرات لا تُنفَّذ، وسلطات تُطيل الحرب لتضمن بقاءها، وشعب يدفع ثمن صراع لا نهاية له إلا بسلام حقيقي يستند إلى الإرادة الوطنية، لا إلى مناورة السلطةThe post لماذا يرفض الإسلاميين التعامل مع المبعوثين الدوليين و اللجوء الي تعدد مسارات الحل appeared first on صحيفة مداميك.