إبراهيم برسيثمة لحظات في التاريخ تبدو صغيرة، لكنها تفتح الأبواب التي نسينا أنها موجودة. واحدة من تلك اللحظات كانت حين قرر عبد الخالق محجوب أن يسأل السؤال الذي تهرّبت منه الأحزاب السودانية طويلًا: لماذا لا نصل إلى الناس؟لم يكن السؤال اتهامًا، بل محاولة لفتح باب جديد إلى السياسة، بابٍ لا تؤسسه العقيدة وحدها، بل تُشيّده الثقة والعمل والصوت اليومي للجماهير… وهكذا تحوّلت الوثيقة التي كتبها عام ١٩٦٣ إلى مفتاح لمستقبل لم يتحقق، لكنه ظل ممكنًا، وهي الوثيقة المعروفة بعنوان “إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير”،التي أراد عبد الخالق من خلالها أن يختبر قدرة الحزب على مساءلة نفسه قبل مساءلة العالمولأن عبد الخالق كان يرى أنّ اللحظة السياسية التي يعيشها السودان تفرض إعادة تعريفٍ للأسئلة الأساسية، فقد كان واضحًا لديه أنّ الحزب الذي لا ينفتح على جماهيره يتحول سريعًا إلى بنية مغلقة، وأن الماركسية التي لا تُترجم إلى لغة الناس تصبح – كما قال مهدي عامل – “نظرية بلا تاريخ”. لذلك يبدأ سؤاله من نقطة تبدو بسيطة لكنها تحمل ثقلًا منهجيًا: كيف نُترجم الفكر الثوري إلى “اللغة التي يفهمها شعبنا”؟ لم يكن السؤال لغويًا، بل سؤالًا عن كيفية تجسّد النظرية داخل شروطها الاجتماعية. وهنا يتقاطع عبد الخالق مع ما كتبه غرامشي عن “المثقف العضوي” الذي لا يتعالى على واقعه، بل ينغرس فيه حتى يصبح جزءًا من بنيته.ومن الطبيعي – قبل الغوص في جوهر الوثيقة – أن نعود خطوة إلى الوراء لفهم السياق الذي كُتبت فيه. فقد كان السودان في مطلع الستينيات يعيش مرحلة توتر عميقة: دولة فتيّة لم تستكمل بناء مؤسساتها بعد، أحزاب تقليدية تمسك بالمشهد السياسي من علٍ، طبقة عاملة ناشئة تبحث عن موطئ قدم في موازين القوة، وجيل من المثقفين الراديكاليين يتلمّس طريقه إلى لغة جديدة تتجاوز ثنائية الطائفية والبيروقراطية. وفي الوقت نفسه، كان الحزب الشيوعي السوداني يعيش حالة انقسامٍ داخلي بين اتجاه يريد الانفتاح على الجماهير، وآخر يفضّل الانغلاق حول “النقاء النظري” ويدافع عنه بوصفه حصن الحزب الأخير.وقد ساهمت التجارب النقابية المتصاعدة – في عطبرة وبورتسودان ومدني ومدن اخري – في تسريع الحاجة إلى خطاب جديد. ولم يكن الأمر بعيدًا عن الصعود المتزايد للخطاب الإسلامي الذي بدأ يستخدم لغة بسيطة تصل إلى الناس بسرعة، بينما ظلّ الخطاب اليساري يبدو معقّدًا، أكاديميًا، غير قادر على دخول الأزقة والأسواق والحقول… وهكذا تبلور لدى عبد الخالق وعيٌ بأن الصراع السياسي هو – قبل كل شيء – صراع لغات، وصراع على من يستطيع أن يحوّل أفكاره إلى جزء من حياة الناس.وفي أثناء هذا التحوّل العميق، تتبدّى بنية الوثيقة نفسها كعمل نقدي أكثر من كونها مراجعة تنظيمية. فهي تتحرك في ثلاث دوائر مترابطة: دائرة نقد التنظيم من الداخل، ودائرة نقد اللغة، ودائرة نقد أسلوب العمل وسط الجماهير.وفي نقده للبنية التنظيمية، يتصدى لعبارات مثل “من ليس معنا فهو ضدنا”، ويفكك نمط التفكير الذي يحوّل الحزب إلى غرفة مغلقة النوافذ لا تحتمل الهواء الجديد، مبينًا أن المركزية حين تتحول إلى سلطة فوق الأعضاء تفقد وظيفتها الثورية، لأنها تجعل الحزب عاجزًا عن إنتاج معرفة جديدة.ومن نقد التنظيم ينتقل عبد الخالق بخفة إلى نقد اللغة، إذ يرى أن اللغة هي الحاجز الأول بين الحزب والجماهير؛ فإذا كانت مُثقَلة بالمصطلحات ولا تُحاكي واقع العامل ولا المرأة الريفية ولا الطالب، فإن الحزب يتحدث إلى نفسه لا إلى الناس. وهنا يفتح عبد الخالق الباب أمام الفكرة الأعمق: أن الوعي لا يصنعه الخطاب المعقّد بل العلاقة الحيّة مع الناس. ومن هذا المنظور، تصبح اللغة ليست وسيلة للتبشير النظري، بل جسرًا للمعرفة المشتركة، كما يشير بول باران حين يربط الاشتراكية بالعلاقة الملموسة بين الكلمة والمعيش.ومن اللغة ينزلق النقد إلى أسلوب العمل وسط الجماهير، لأن النقد عند عبد الخالق ليس فصلًا لغويًا بل امتدادٌ للممارسة نفسها. فالجماهير ليست تلاميذ ينتظرون التوجيه، ولا أدوات دعائية، بل هي مصدر الشرعية وغاية العمل السياسي. ولذلك لا بد من علاقة تقوم على المشاركة لا الإملاء، وعلى الثقة لا الوصاية، وعلى الفعل لا الشعارات. وهذا التحوّل يجعل الوثيقة خطوة باتجاه إعادة تشكيل مفهوم “الحزب” نفسه: ليس جهازًا يلقّن الجماهير، بل جهازًا يتعلم منها.ومع تعمّق هذه الرؤية، يصبح من الضروري النظر إلى الوثيقة ضمن النقاش العالمي الذي كان يتشكل داخل الحركة الشيوعية. فقد جاءت الوثيقة في لحظة حاسمة كانت فيها الأحزاب الشيوعية تتصارع بين نموذج “الحزب الطليعي” السوفيتي الصارم، ونموذج “الحزب الجماهيري” الأكثر انفتاحًا الذي بدأ يظهر في تجارب مثل يوغوسلافيا، وفيتنام، وتجارب التحرر الوطني. ولم يقف عبد الخالق في أي طرف من الطرفين، بل أراد حزبًا طليعيًا في وضوحه الفكري… وجماهيريًا في أسلوبه العملي، مؤمنًا بأن الحزب المنغلق قد يربح نقاشًا نظريًا لكنه يخسر الشارع.ومع الانتقال من الإطار الفكري إلى الإطار التاريخي، يتأكد لنا أن الوثيقة لم تكن حدثًا تنظيميًا معزولًا. وكان ذلك واضحًا في أثرها على تحولات الحزب خلال الأعوام التالية، إذ منذ نشرها في العدد ١١٦ من مجلة “الشيوعي” في سبتمبر ١٩٦٣، بدأت تأثيراتها تتسرب إلى داخل الحزب وخارجه. وحين جاءت ثورة أكتوبر ١٩٦٤، كانت أفكار الوثيقة قد أسهمت في توسيع قدرة الحزب على التواصل مع الشارع، خاصة عبر النقابات والاتحادات والروابط الطلابية. كما ظهرت أهميتها في مواجهة السؤال المتجدد حول علاقة الحزب بالدولة بعد انقلاب ٢٥ مايو ١٩٦٩، حين وجد الحزب نفسه موزعًا بين المشاركة في السلطة والحفاظ على استقلاليته الفكرية. وقد عملت الوثيقة ـ في تلك اللحظة الحرجة ـ كضمير داخلي يعيد تذكير الحزب بقيمة النقد والانفتاح والحرية.غير أنّ كل نص كبير يظل محكومًا بحدوده التاريخية، والوثيقة – رغم عمقها – ليست استثناءً. ومن الطبيعي بعد ذلك أن نواجه الحدود التي لم تستطع الوثيقة تجاوزها، لا بسبب قصورها، بل بسبب طبيعة اللحظة نفسها. فقد افترضت قدرة الجماهير على كسر الولاءات التقليدية بوتيرة أعلى مما تسمح به البنية السودانية. كما انها لم تقدّم تصورًا تفصيليًا لآليات دمج الجماهير في القرار الحزبي، رغم تركيزها الكبير على العلاقة الإنسانية بين الحزب والناس. واعتمدت كذلك على إمكانية بناء كوادر ريفية واسعة، بينما كانت الظروف الاقتصادية والاجتماعية تجعل الأمر مهمة شاقة. ومع ذلك، فإن قوة الوثيقة لا تكمن في ما قالته فقط، بل في الأسئلة التي فتحتها، وفي إصرارها على أن تكون المراجعة فعلًا ثوريًا لا دليلًا على الارتباك.وبرغم كل تلك الحدود، فإن الوثيقة تتقدّم نحو حاضرنا لأنها لا تتعامل مع السياسة كبرنامج حزبي، بل كمساءلة مستمرة للشكل الذي يجب أن تكون عليه العلاقة بين الحزب والشعب. فأسئلتها حول اللغة، والوعي، والديمقراطية الداخلية، والارتباط بالجماهير، لا تزال أسئلة يومية. وهي تُذكر اليسار بأن الثورة ليست صراخًا ولا إدانة للعالم، بل بناءً يوميًا للصوت الجماعي؛ وأن الحزب الذي لا يراجع نفسه لا يستطيع أن يغيّر العالم، لأن السياسة التي لا تصغي تفقد حقها في النطق، إذ تنفصل عن شرطها الإنساني الأول: الجماعة.إنها، باختصار، وصيّة المستقبل… كتبتها يدٌ أدركت أن النظرية لا تنمو إلا في التربة التي يصنعها الناس، وأن الطريق إلى الجماهير ليس خيارًا تنظيميًا بل شرطًا لوجود الحزب نفسه، إذ لا معنى لحزبٍ لا يحمل ذاكرة الناس وهمومهم، ولا معنى لثورةٍ لا تجد لغتها في أفواه الذين يصنعون خبزها اليومي.The post نحو قراءة جديدة لوثيقة عبد الخالق محجوب: “إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير،، appeared first on صحيفة مداميك.