إبراهيم برسيحين خرج وزير الدفاع السوداني ليتحدث عن الحرب وجهود “الرباعية”، لم يكن يبدو كمن يملك زمام الخطاب، بل كمن يقرأ نصًّا كُتب له في لحظة ضيق…كان صوته باهتًا، ونبرته مترددة بين الادّعاء والتبرير، ولغة جسده كانت تُشي بكل ما لم يُقَل… عيناه تتحاشيان الكاميرا، وملامحه تميل إلى القسوة حين يذكر “الحرب”، ثم تخفت حين يتحدث عن “السلام”.بدا الوزير وكأنه يُوازن بين ضغط الخارج الذي يطالبه بالانخراط في التسوية، وضغط الداخل الذي يراه خضوعًا لا يُغتفر، وخيانة لحرب الكرامة…وحين قال عبارته المرتبكة: “نرحب بجهود السلام لكن تجهيزاتنا للحرب حق وطني”، كان المشهد كلّه يُلخّص مأزق المؤسسة العسكرية ذاتها… مؤسسة تبحث عن خلاصها في اللغة أكثر مما في الفعل.الوزير يتحدث عن “تعبئة شعبية عامة لمواجهة الدعم السريع”، وهي عبارة تُحيل إلى عودة لغة “الاستنفار” القديمة التي كانت تُستخدم في تسعينيات نظام الإنقاذ، حين جرى تحويل الحرب من شأن عسكري إلى حرب أيديولوجية تعبويّة. هذا الأسلوب يُذكِّرنا بما شهدته البلاد في حقبة الحرب الأهلية خلال التسعينيات، حين صُوِّرت المعارك كأنها “جهاد مقدس” دفاعًا عن الوطن والدين، وحُشِدَ الآلاف من الشباب تحت رايات عقائدية لقتال ما سُمّي آنذاك “أعداء الداخل”.الخطاب هنا لا يدعو إلى الدفاع فحسب، بل يُعيد إنتاج فكرة “العدو الداخلي”، إذ يصوِّر قوات الدعم السريع كمهدِّد وجودي للوطن من الداخل. ويستدعي هذا الخطاب أدوات التعبئة الدينية والقبلية لتغطية عجز المؤسسة العسكرية عن الحسم العسكري الصريح. ولا عجب أن تُرافِق هذه التعبئة اتهامات للعدو الداخلي بارتكاب فظائع – فقد ناقش المجلس جرائم “الإبادة الجماعية والتطهير العرقي” المنسوبة إلى الدعم السريع في الفاشر – في محاولة لإضفاء بُعد أخلاقي ورسالي على حربٍ تتعثر فيها الإنجازات الميدانية.أما قوله: “نرحب بجهود السلام لكن تجهيزاتنا للحرب حق وطني، ونشكر إدارة ترمب على جهودها ومقترحاتها”، فهو مفتاح القراءة الحقيقي لهذا الخطاب المزدوج. فمن جهة، يُخاطب الوزير الداخل بمفردات الوطنية والمقاومة ليرفع المعنويات ويظهر بمظهر المدافع عن سيادة البلاد، ومن جهة أخرى يرسل رسالة تطمين للخارج. فهو يُعلم الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، السعودية، مصر، والإمارات) بأن الجيش لا يرفض التسوية كليًا، بل يريد الاعتراف به كطرف شرعي وأساسي في أي عملية سياسية مقبلة. هذه الازدواجية المقصودة تهدف إلى تفادي خسارة أي من الجبهتين: الداخل، عبر إيهام الجمهور بأن التحضيرات للحسم قائمة وروح المقاومة الوطنية حاضرة؛ والخارج، عبر طمأنة الوسطاء بأن المؤسسة العسكرية منفتحة على الحلول السلمية ولا تعارض جهود التسوية من حيث المبدأ.بمعنى آخر، يحاول الوزير أن يُمسك العصا من المنتصف…يُلوِّح بخيار الحرب لاستعادة زمام المبادرة داخليًا بعد خسائر الفاشر، في محاولة لرفع معنويات أنصاره وتعويض الانكسار العسكري.فقد كانت مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، آخر معاقل الجيش هناك؛ وسقوطها تحت سيطرة قوات الدعم السريع قبل أيام مثَّل ضربة موجعة أفقدت الجيش السيطرة على كامل إقليم دارفور الاستراتيجي الذي يشكّل نحو ثلث مساحة السودان.ويغازل المجتمع الدولي ليحافظ على قنوات الدعم السياسي واللوجستي مفتوحة. اذ يدرك الجيش أن بقاءه يعتمد أيضًا على رضا القوى الدولية والإقليمية، لذا يبعث برسائل التهدئة إلى الخارج عبر إبداء الاستعداد للانخراط في مبادرات السلام. فمثلًا، أبدى المجلس العسكري تجاوبًا مع مبادرة هدنة إنسانية مدتها ثلاثة أشهر طُرحت في منتصف سبتمبر الماضي برعاية أمريكية وسعودية، في مسعى منه لضمان استمرار التعاطف الدولي وعدم خسارة الغطاء الدبلوماسي أو العسكري الذي توفّره له بعض الدول الحليفة.وأما عن موافقة الجيش المبدئية على مقترحات الرباعية الدولية، فهي لم تكن نابعة من قناعة راسخة بقدر ما جاءت كمناورة اضطرارية فَرَضَها الضغط الميداني والعُزلة السياسية المتفاقمة. يسعى الجيش من خلالها إلى كسب الوقت وإعادة تعريف موقعه في أي تسوية قادمة. فقد بات يدرك أن حلفاءه الإقليميين التقليديين أنفسهم لم يعودوا متحمسين لاستمرار الحرب بلا نهاية… حيث بدأت دول كمصر والسعودية وقطر تُراجع مواقفها وتلمّح إلى ضرورة وقف القتال. فالخوف ينتاب تلك العواصم من أن تؤدي إطالة أمد النزاع إلى فوضى إقليمية أو صعود قوى متطرفة، مما جعلها تميل أكثر إلى دفع الأطراف نحو اتفاق ما. وبالتالي وجد الجيش نفسه معزولًا نسبيًا حتى ممن ظنهم يومًا سندًا، ولم يكن أمامه إلا مجاراة تلك الضغوط والمبادرة بقبول الهدنة المقترحة – ولو ظاهريًا – كي لا يفقد آخر مصادر الدعم الخارجي.لكن في خلفية هذا المشهد يقف واقع أشد تعقيدًا… فالجيش المُختطَف من قِبَل الحركة الإسلامية يعيش تحت ضغوط متناقضة ومهينة في آن واحد. فمن جهة، تمارس الولايات المتحدة والوسطاء الدوليون ضغوطًا متزايدة على قيادة الجيش للانخراط في تسوية تنهي الحرب وتفتح المسار السياسي المدني، ومن جهة أخرى يضغط الإسلاميون المتغلغلون في مفاصل القيادة والقرار بشراسة، إذ يرون أي تفاوض بمثابة خيانة صريحة لآخر ما تبقّى من نفوذهم التاريخي داخل المؤسسة العسكرية. ولعل أوضح مثال على ذلك موقف تحالف التيار الإسلامي العريض الذي يقوده علي كرتي، والذي سارع إلى رفض المبادرة الدولية الأخيرة معتبرًا إياها “إملاءات خارجية” وطعنًا في ولاء الجيش، حتى إنّه طالب باستبعاد بعض الوسطاء الإقليميين مثل الإمارات بدعوى انحيازهم للمتمردين.في قلب هذا التناقض يقف عبد الفتاح البرهان، لكنه لا يبدو قائدًا موحِّدًا بقدر ما هو لاعب يناور للبقاء. فقد صعد البرهان نفسه إلى السلطة بدعم هذه الشبكة الإسلامية داخل الجيش، لكنه في الوقت عينه يتعرض لتحذيرات مبطنة من العزلة والعقوبات الغربية إن استمر في طريق الحرب. لذا فهو يحاول النجاة عبر تقديم الوعود المتضاربة لكل طرف، وتحويل الحرب ذاتها إلى ورقة مساومة.يسعى البرهان لأن يحكم بأي ثمن: يقدّم نفسه للعالم كضامن للاستقرار ومنقذ من الفوضى، وفي المقابل يتعهّد للإسلاميين بأنه درعهم الذي يحمي مشروعهم من الانهيار.باختصار، إن تعليق الوزير الأخير يعبّر عن انقسام عميق في وعي المؤسسة العسكرية بين خطاب تعبوي داخلي يائس وخطاب دبلوماسي خارجي مصلحي. الأول يُخاطب الداخل بشعارات “التعبئة والجهاد”، والثاني يطلب من الخارج ألا يسحب غطاء الدعم والشرعية. إنه خطاب جيش لم يعد يملك إلا المفارقات المؤلمة: أن يطلب السلام بالسلاح، وأن يتحدّث عن الوطنية تحت وصاية الرباعية الدولية… إنها مفارقة لن تصمد طويلًا أمام حقائق الميدان وضغوط السياسة.The post تحليل لخطاب وزير الدفاع السوداني حول الحرب وجهود الرباعية appeared first on صحيفة مداميك.