كمال الجزولي – غصن الرياض المائِد بالمحبة وإحسان صداقة الآخر

Wait 5 sec.

وجدي كاملغادرنا في مثل هذا اليوم، الخامس من نوفمبر، منذ عامين،المحامي والكاتب والشاعر الضخم كمال عوض الجزولي،بعد أن أسعد حياتنا بوجوده وحضوره القوي في كافة مناحي نشاطنا الاجتماعي والثقافي والسياسي.ما سيلي مساهمة مني، كتبتُها أملًا في أن تصدر ضمن كتابٍ يحاول فيه الأصدقاء والمقرّبون من كمال تسجيل تجارب صداقتهم معه وتوثيق ذكرياتهم مع الراحل. اتمنى ان يكون ما كتبت مفيدا وفاعلا في تعميق المعرفة بكمال الجزولي وفتح نافذة لمن اراد مستقبلا البحث في سيرته وشخصيته.استهلالأغنية «غصن الرياض المائِد» كانت واحدة من المشتركات الكثيرة التي كنا نلتقي حولها في الطرب الخاص، ومعها أغنيات أخرى عديدة نتشابك ونشتبك في التعلّق بها في جلساتنا المشتركة.“أبو كمال”، كما أسميه وأناديه، ما إن يبدأ أحد المغنين المجيدين في أداء «غصن الرياض» – وقطعًا ليس رمضان زايد أو أبو داوود – حتى يتحول إلى كتلة من العاطفة المتقدة، مفعمًا بأوفر لحظات الطرب، فتنطلق يداه في التوصيف والرسم على الهواء بجمال وتناسق، وكأنه يريد أن يصنع أو يبتكر في تلك اللحظة أجنحته الخاصة ليطير. ويزداد ذلك خاصة عندما يعتلي الأداء سُلَّمه الصادح في:عانيت في هواك صنوف وأحايد / مشكلة بين هواي وجفاك وانت محايد.يا الله، ويا إلهي! فأنت تراه هنا بالفعل في مشكلته هو، حيث يعاني لكي يطير، وتراه كأنما يعيد محاولة الطيران. ولكنه يعقّب وقد دمعت عيناه مرددًا: يا سلام يا سلام، ثم لا يلبث أن يعلّق متعجبًا: بالله شوف الزول ده بيقول في شنو!.⸻(١)تعود علاقتي بكمال الجزولي إلى أحد أيام عام 1976.ففي ليلة افتتاح المعرض التشكيلي لأستاذنا في مادة الفنون بمدرسة بحري الثانوية الحكومية، عبد الله بولا آنذاك، والذي أقيم بالمركز الثقافي البريطاني بأم درمان، وقع حدث داخل حدث لم يكن متوقعًا. فقد أثار إعجاب الحضور من التشكيليين والشعراء والنقاد أن الشخص الذي قصّ شريط الافتتاح في تلك الليلة لم يكن وزير الثقافة أو مدير مصلحة الثقافة أو شخصية ثقافية معروفة، بل كان الطفل (وقتها) محمد عوض الجزولي، الشقيق الأصغر لأولاد وبنات عوض الجزولي، لما جمع بولا وكمال وبقية أفراد الأسرة من صداقة متينة دانية القطوف، متعددة المعاني في حب الفن والثقافة.كان بولا، ومنذ عودة كمال عام 1973 من كييف، قد أظهر – ومعه مجموعة من التشكيليين – اهتمامًا بشعره وتفرّده الشعري في ذلك الزمان الغض.كان ذلك المعرض اليومَ الأول الذي أرى فيه كمال الجزولي عن قرب، إلى جانب عدد من الأسماء الإبداعية والثقافية اللامعة التي كنت أسمع عنها وأقرأ لها وأتابع أعمالها كطالب ثانوي حديث العهد بالمعرفة الثقافية وسوسيولوجيتها، والتي ستأخذ أوقاتي واهتماماتي فيما بعد. هؤلاء الناس سيصبحون لاحقًا أصدقائي الخُلَّص والمجتمع الموازي الذي ستتشكل فيه ومنه مادة حياتي المقبلة، دون أن يشعرني أحد بأي فارق سني بيني وبينهم.في تلك المرحلة كنت منشغلاً بنظم ضربٍ من الشعر يمكن وصفه بالسياسي النقدي المقاوم، وقد نال إعجاب جمهور من الطلاب والأصدقاء ممن كانوا على صلة إبداعية بي، كما زملاء في الجبهة الديمقراطية بالمدرسة ومن كنت أصادق من الشيوعيين من خارج أسوارها.كنا نقاوم نظام مايو بطرق سياسية عديدة، لكن الوسائل الثقافية بدأت تبدو لنا أنجع وأقدر على تعميق المعارضة للنظام، والتحريض، ونشر الأمل بقرب انتصار الحركة الجماهيرية.راجت لي حينها ثلاث قصائد – على ما أذكر – الأولى بعنوان: «أمدرمان خازنة الومض والدهشة»، والثانية: «بلا تذاكر أستدير بفصول وجهك وأتجدد»، أما الثالثة فهي: «مظاهرات في دمي – مخابرات في دمي».ومن غير أن أدري، توسعت دائرة قراء قصائدي، وسأجد نفسي قارئًا لذلك الشعر السياسي المصادم أمام أشخاص كثر وفي مناسبات عديدة، مثل احتفالات طلاب جامعة الخرطوم التي بدأت بدعوة من “منتدى الفلاسفة” الذي كان يقام بسطح قسم الفلسفة بكلية الآداب، وكذلك اليوبيل الفضي بكلية العلوم.ومن غرائب الأمور أن تتم دعوتي بكلية العلوم في ليلة شعرية مع الشاعر الصديق الراحل محمد طه القدّال وآخرين، منهم بانقا عباس، ثم تتوالى الدعوات، وأقرأ على “النجيلة” بمربع كلية العلوم مع مجموعة من الشعراء الشباب آنذاك، منهم هاشم محمد صالح وبشرى الفاضل وبانقا عباس وكمال الجزولي.بالطبع كان كل ذلك غير متوقع بالنسبة لي كشاعر مبتدئ له عثراته وأخطاؤه التي انتبه إليها لاحقًا، لكن التشجيع الذي كنت أجده من الآخرين هو ما ورّطني أكثر في السوسيولوجيا الثقافية والفنية اليسارية. فقد كنت أجيد – على ما أظن – بناء “الصور الشعرية الجديدة المفاجئة”، كما كان التعليق المتكرر لعبد الله بولا، وكذلك حسن الإلقاء.أذكر أن بانقا عباس، وكان صديقًا مقربًا، قد عبّر لي عن إعجاب كمال الجزولي بقصيدة بعنوان «كيمياء البنفسج» قرأتها يومها ضمن القصائد.كمال لم يقل لي شيئًا أو يواجهني بشيء، وقد أبدَيت استغرابي من ذلك قبل أن يفسر لي أحدهم بأن هذا هو كمال؛ ربما رآني صبيًا متحمسًا، وربما شعر – وهو الشاعر الضخم المتألق آنذاك – بأن مخاطبته لي قد تُنقِص من مقدار علو كعبه. وكنت ألاحظ أنه يسالمُني من مسافة آمنة، وربما من زاوية مرتفعة قليلاً، وينظر لي بعين الطائر.ذلك كان أمرًا طبيعيًا لشاعر شغل الأوساط الأدبية والسياسية وقتها بأجمل الأشعار، ومنها «واحد وعشرون طلقة لـ 19 يوليو» و*«أمدرمان تأتي في قطار الثامنة»*، وقد عاد منذ سنوات قليلة من الاتحاد السوفيتي بعد دراسة القانون الدولي بأوكرانيا.ويمكن القول إن الندوات الشعرية التي كان يشارك فيها كمال الجزولي أو يقيمها ببطولة مطلقة في تلك الأيام كانت تحظى بحضور لافت واستثنائي من طلاب الجامعات وجمهور اليسار عمومًا، لما تقدمه من متعة وإحساس بالتواجد داخل حدث وأعمال مقاومة لنظام انخرط قبل أعوام في إعدام خيرة قياداته.ومن باب الإنصاف، كان حضور أمسياته لا يقل أحيانًا عن حضور حفلات محمد وردي ومحمد الأمين عندما يحييان حفلاً بالجامعة. وكان طلاب الجبهة الديمقراطية يروّجون لمناسباتهم بعبارة: “الندوة الشعرية بكمال الجزولي والحفل الساهر بمحمد وردي أو محمد الأمين”، وهو ما كان كافيًا لجذب حتى من يوصفون بـ “الأعمى شايل المكسر”.كانت تلك أيامًا لا تزال فيها الحركة الديمقراطية واليسار السوداني تحت صدمة انقلاب 19 يوليو وما تلاه من خسائر فادحة جراء “إعدامات الشجرة” وفقدان الحزب الشيوعي للعديد من رموزه الكبيرة مثل عبد الخالق والشفيع وجوزيف قرنق وغيرهم. لكن الحركة الثقافية الموازية، التي كان كمال أحد فرسانها، بدت قمينة بإحداث الفرق وإخراج النفيس من الأعمال الفنية والأدبية. (٢)التقيتُ بكمال بعدها في أماكن ومناسبات مختلفة، منها المعارض التشكيلية التي كنت أحيانًا أشارك في بعضها بدعوات من الفنانين حسن موسى وباردوس. كما التقيته في صحيفة الأيام بالمنطقة الصناعية بالخرطوم بحري، في مكتب الراحل الأستاذ عيسى الحلو، عندما كان يحرر الملف الثقافي للصحيفة، وهو مكتب كان مزارًا لعدد من الأدباء والشعراء. هناك قابلت محمد عبد الحي، ومصطفى سند، ومحيي الدين فارس، ورأيت إلياس فتح الرحمن الذي كان يعمل مساعدًا صحفيًا لجمع أخبار (متفرقات) الأحداث الثقافية.كان كمال الجزولي هناك أيضًا بين الفينة والأخرى، ولا تفارقه حقيبة المحاماة السوداء، يحملها ويجوب بها من أروقة الثقافة إلى سوح القضاء والمحاكم.كنا نلتقي كذلك في مصلحة الثقافة عندما كانت بشارع الجامعة، وكنت أنشر في مجلتها رسومات الأبيض والأسود. ومع مرور الوقت ازداد تقاربنا وتعارفنا.غادرت بعدها بأعوام قليلة للدراسة في موسكو. وفي العطلات الجامعية أو أثناء الإجازة السنوية بالخرطوم، لم أكن أحظى بمقابلة كمال كثيرًا، إذ غالبًا ما كانت تلك السنوات، وبعد زواجه من الدكتورة والأخت الصديقة فائزة حسين، تشهد اعتقالاته المتكررة. ولكني أذكر أنه بعد قيام انتفاضة مارس/أبريل، وقد عاد الشاعر محمد المكي إبراهيم وكانت له ندوة بنادي الأساتذة بجامعة الخرطوم، كنت وصديقي العزيز الشاعر والناقد أسامة الخواض جلوسًا نتأهب لسماع ود المكي، مدّخرين نقدًا سياسيًا لا يخفى على وجوهنا. فإذا بكمال ينحني بمحبة علينا ويحذرنا من خلق أي اشتباك نقاشي يتعلق بخيارات محمد المكي السياسية، وكان وقتها ثمة عتاب على الأخير بأنه كتب قصائد عن التنمية فيها ضربٌ من التصالح مع نظام مايو.غيابي بعد التخرج والتحاقي بالعمل في جامعة قاريونس بليبيا لم يسمح لي بلقاء كمال إلا في مناسبات ثقافية عند العودة في العطلات، ومنها أنشطة اتحاد الكتّاب بالمقرن، إلى أن وقع انقلاب الثلاثين من يونيو، فاعتُقل وأُدخل بيوت الأشباح، قبل أن يُحوَّل إلى سجن كوبر ثم بورتسودان.لكن مع عودتي عام 1993 بعد إكمال الدكتوراه، شاءت الظروف أن أصبح زائرًا شبه دائم لكمال في مكتبه بعمارة الخطوط الجوية السعودية، نُقلّب معًا فكرة إعادة الحياة إلى اتحاد الكتّاب. أذكر جيدًا أنه في بداية النقاشات بدا غير متحمس لذلك.غادرت بعدها إلى قطر، ثم ليبيا، فالإمارات، وعدت نهائيًا في عام 2001 بعد إقامات متعددة ومتوترة ورحلات، كان أكثر ما أنجزته فيها نشر الكثير من المقالات والقصائد في الصحف والمجلات هناك، وكذلك في صحيفة الخرطوم بالقاهرة. عدت ومعي ثلاثة كتب مطبوعة أهديتها له ذات جلسة ثقافية بقاعة الشارقة. ثم التحقت بكلية الآداب – قسم الإعلام – بجامعة الخرطوم، وتولّيت في الوقت نفسه تحرير الملف الثقافي لصحيفة الرأي العام.هذه المرة ازدادت لقاءاتنا وتعمّقت بحكم المواد التي كان يقترحها لي، ومتابعته الدقيقة لعمودي الراتب في الملف. في تلك الأيام أصبح تفكيرنا متسقًا في الدعوة إلى جمعية عامة للاتحاد.(٣)تمضي الأعوام فأقترب منه أكثر. فكمال ضرب من البشر ممن يحوزون إمكانيات معرفية هائلة وصفات قد تبدو متناقضة للرائي عن بعد. فهو، بقدر إخلاصه لإنتاجه وحبه لتجويده، سريع الاشتعال والحساسية، ليس بسبب حماقة، وإنما لرفعه الدائم سقف التوقعات من الآخرين والأشياء.تجده شخصًا نبيلاً مخلصًا نقي القلب، لكنه قابل للانفجار عند أي صدمة تواجهه. انفجاراته وخصوماته معروفة لمن يختلط به، وقد تكون لأسباب تبدو تافهة لغيره، لكنه يقنعك دائمًا بأنها تستحق.أذكر أن خصومة جرت بيننا لأعوام بسبب أنني أخلفت موعدًا بمنزله دعاني له بغرض إعادة إحياء اتحاد الكتاب. أعترف أنني خذلته فلم أحضر ولم أعتذر، فما كان منه إلا أن بدأ يتجاهلني في أول لقاء تلا ذلك.عادت العلاقة بعد أعوام بمحض صدفة، في مجلس مسائي بالخرطوم 2، وكان عائدًا من المطار بعد استقبال جثمان أحد زملائه المحامين. وجدنا أنفسنا على سطح منزل وقد انقطع التيار الكهربائي، فتلامست أجسادنا، فسلمت عليه بمناداتي المحببة إليه: “كيفك يا أبو كمال؟”. لم أدرِ، لكن سمعت رده ونبرات صوته تكاد تغرق في الحزن والعتاب. وانتهت الليلة بأن تواعدنا على لقاء قريب. ومنذ ذلك الحين أصبح التواصل خصبًا ومفتوحًا طيلة الأربعة عشر عامًا الأخيرة.الضحك والمؤانسة والحوار الهادئ والتداخل الأسري أخذت جوهر علاقتنا. فما أن نلتقي حتى نغرق في الحكايات وتبادل الإنتاجات الأدبية ومراجعة الأفكار.كنت أندهش بيني وبين نفسي كيف يتحمل كمال كل مغامرات التفكير النقدي الذي كنت أسرّ به إليه، والذي كان يفضي أحيانًا إلى نسف الكثير من مسلمات السياسة والتاريخ. وفي كثير من الأحيان كان يوافقني، مضيفًا ومغذيًا أسانيدي في بناء مواقفي وأفكاري.كمال رجل مخلص بطبعه، وفيه وفاء نادر للمؤسسات السياسية التي ارتبط بها، وللأشخاص الذين أحبهم. وهو شخص صعب الإرضاء، يختار أصدقاءه بمقاييس دقيقة.نعم، خذله بعضهم، لكن الغالبية بادلوه الصدق. وكان واضحًا في عاطفته الاجتماعية، لا يجامل أبدًا. نصير للمظلومين أينما كانوا، ومستعد للدفاع عنهم كمحامٍ دون مقابل.وكان فكهًا يحب الفكاهة. عشنا معه مواقف كثيرة مضحكة، كان آخرها بعد عملية الكاحل الأخيرة، في الغرفة التي جمعت أميرة ومجدي الجزولي وفائزة وأُبَي وشخصي. بعد نوبة ألم غير طبيعي فاجأه عقب انتهاء مفعول التخدير، ومعاناة من عدم القدرة على التبول، أحس فجأة بتحسن وتنفس الصعداء. فحكى أنه لأربعين سنة لم يفهم مغزى قصة جرت أحداثها بمروي، سردها له الفنان عبد الكريم الكابلي.ضحك فجأة وقال: “عطية بال؟”.كنا نتطلع إليه غير مستوعبين. فواصل وفصّل القصة: كان هناك موظف معهم في قضائية مروي اسمه عطية، أصيب بوعكة منعته من التبول لأيام، حتى صار السؤال عاديًا عند الناس: “أها عطية بال؟”. وانتشر الأمر حتى صار من الطبيعي أن يُسأل أي موظف من القضائية وهو يمر بالسوق: “أها عطية بال؟”.ولأن كمال كان لماحًا ورمزيًا وساخرًا حتى من نفسه، فقد أراد عبر سرده إيصال معلومة أنه استطاع التبول أخيرًا.(٤)بقدر ما كان كمال عاشقًا للأدب ومنتِجًا في حقل القصيدة والمقال والقصة الطويلة والقصيرة (ستظهر له قريبًا أعمالًا في هذين المجالين)، فقد كان أيضًا محبًا للمشاهدة التلفزيونية وللأفلام والسينما ويتابع جديدها.عندما التحقت بقناة الجزيرة بقطر، وبعد مضي عام انتقلت فيه من قسم (إدارة الإبداع) إلى قسم (إدارة البرامج) والعمل بإنتاج الأفلام الوثائقية، كنت أبحث وأعمل على تجهيز مادة فيلم (بروق الحنين). وكثيرًا ما كنت أستشيره في عدة أمور، ومنها العنوان نفسه الذي كان ضمن مقترحات أخرى. كمال هو الذي قطع باختيار (بروق الحنين) لكي يكون اسم الفيلم.وعندما حضرت من الدوحة لتحقيق الفيلم لصالح قناة الجزيرة، اخترت كمال متحدثًا عن الانفصال فأبدع في إفادته وتميَّز بقوة العاطفة وإبراز تقاسيم الألم في المرات العديدة التي ظهر فيها بالفيلم.تم عرض الفيلم، وكنت، كعادة من يقوم بعمل فني ما ولا يعلم مدى القبول أو الرفض له من الآخرين، أن أسأل عنه الأقربين. اتصلت بكمال بعد عرض الفيلم، وقبل أن أسأله عن رأيه لاحظت نزول مطر من الثناء والكلام الطيب منه، وأذكر جيدًا جملته الافتتاحية التي قال فيها:الله يخضِّر ضراعك يا وجدي.حذارِ كان، وطيلة فترة عملي بقناة الجزيرة وتواجدي بالدوحة، أن أصل الخرطوم ولا يكون الاتصال الهاتفي الأول (بعد الوالدة) مع شخص غير كمال.وكان عادة ما يدور بيننا الحديث التالي:— يا أبو كمال كيف الحال؟يجيب: ياخي! إنت في البلد.. جيت؟ وصلت يعني؟ جيت متين؟أنا: أمبارح.وحذارِ أن أقول إنني وصلت من أيام، لأن ذلك سيثير تساؤلًا إضافيًا: طيب ما اتصلت علَي مالك؟ولكن عندما أجيب “أمبارح” (وغالبًا ما أكون صادقًا فيما أقوله) يذهب إلى:— أها بتمر علَي بعدين؟وبعدين، تلك ستعني أننا سنقضي كل المشاوير والأوقات ونغطي كل الأحداث الثقافية والاجتماعية مع بعضنا البعض حتى تنتهي الإجازة وأعود مُحمَّلًا بذكريات جديدة ولطيفة معه.(٥)ستكون محظوظًا إذا دعاك كمال لعزومة أو مشاركته استقبال شخص أو مجموعة في بيته. فكمال وأسرته هم أهل الكرم والذوق العالي في التجهيز للدعوات المنزلية، وفائزة واحدة من ملكات الطهى لا منازع لها. يستقبلك كمال بحميمية ودفء غير عاديَيْن في تلك الصالة التي من بنات أفكار كمال معمارها وتشكيلها وقيمة لوحاتها وصورها. فترى الصور واللوحات النادرة المعلقة، والجدران والسقف الأبيض العالي. كل شيء في تلك العزومات يمضي بنظام يبدأ من مواعيد الحضور حتى توقيت إحساسك الذاتي بموعد المغادرة.وقد التقيت في بيت كمال شخصيات عديدة، ودارت بيننا نقاشات مهمة في جلسات طابعها الحوار وتبادل الأفكار والمرح والغناء.إذا تمنيت أن تحظى بنزهة لطيفة في إنسانية كمال الجزولي، فتمنى أن تكون شاهدًا وحاضرًا في أوقاتملاعبة كمال لحفيده إياد أُبَى. فكمال، وبوجود إياد، تغمره أيما سعادة ويتحول إلى طفل يتفاهم ويعرف كيف يخلق الشغف المطلوب لدى الطفل من شريحة الكبار.كان دائمًا ما تقوم بيني وبينه مغالطة بسبب صعوبة الوصول إلى موقع منزلي. وكنت، كما يقال، أحمل همًا كلما دعوته لزيارتي. فالبيت بمربع من مربعات منطقة كافوري بمكان (غميس) في مزارع كوكو، والزائر لأول مرة يضيع بين الشارع الرئيس للقنطرة والطريق إلى المزارع، ولكنه يحفظ البيت في المرات التالية ولا نحتاج أن نرسل له أحدًا في الطريق الرئيسي.كمال وصديقه المقرَّب عبد المنعم عثمان إدريس المحامي، لم يتمكنا أبدًا من حفظ الوصف.وكانت أشد اللحظات عصبية عندما يصلا شارع القنطرة ويتساءل كمال بحدة:— ياخي إنت بيتك ده وين؟فأرد بالسؤال: أين أنتم الآن؟ وأرسل ابني محمد لإحضارهم، وتذوب كل تلك الحدة في حرارة المقابلة.في المرة التي تليها والتي بعدها أيضًا سيأتي صوت كمال:— ياخي.. يا وجدي، انت بيتكم ده وين؟وكانت آخر المرات قبل الحرب بشهر ونصف، عندما أقمنا بالبيت حفل استقبال لحسن موسى وزوجته باتريشا، وغنى فيه صاحب الصوت الفخيم وليد يوسف، وكانت (لوموهو اللاهي) التي يطرب لها كمال الجزولي أيما طرب.الدرس المستفاد هو أنه عندما “يرفع كمال صوته عليك” أو يشخط كما نقول، فإياك أن تنفعل أو تعتبر ذلك انتقاصًا منك أو إساءة لك. إذا حدث ذلك عليك أن تعلم وتثق تمامًا أنك من المقربين له والذين يفترض فيهم فهم طبيعة شخصيته المشتعلة أحيانًا. وثق بأنه بعد قليل سيتعامل معك بمحبة غامرة وربما يحكي لك موقفًا طريفًا أو نكتة.وبإمكاني القول إن من لم يتعرض ل(هيجانات) أبو كمال، أنه ليس بصاحب خاص له، وفي ذلك استثناء كبير لصديقه التشكيلي المعروف أحمد سيد أحمد الذي حدثني قبل أيام هنا ببريطانيا عن قِدَم علاقته بكمال منذ عودته من الاتحاد السوفيتي عام ٧٣ وسكن آل عوض الجزولي بالثورة.قال لي أحمد ونحن نتطرق ل(ثورات) كمال الجزولي:— تصدق يا وجدي أنا كمال ده أصلاً ما هاج فيني ولا مرة.(٦)كمال شخصية اجتماعية ويقدر بشكل عميق أداء الواجبات الاجتماعية، وإياك أن تسبقه لتقديم عزاء وتأتي وتحدثه عن ذلك العزاء.وكم رأيته يتألم لفراق الأعزاء، وكان منهم النطاس البارع وزميل الدراسة بموسكو عبد الرحمن الزاكي، الذي كانت لنا رفقة مشتركة في تشييع جثمانه بمقابر البكري بأمدرمان بصحبة دكتور يحيى كمبلاوي.كمال لم يحتمل مشاهدة جثمان عبد الرحمن وهو يوارى الثرى، فاختار أن يبقى بالعربة خارج سور المقابر، فذهبت لوحدي داخل المقابر والتقيت أميرة الجزولي، التي ما إنْ علمت بوجود كمال في الخارج حتى ذهبت إليه لتقديم التعازي.كان يحب أخته أميرة الجزولي بنحو لا يوصف. لم أقف على علاقة مَحنَّة جمعت بين أخ وأخت كما وقفت على علاقة كمال بأميرة الجزولي. وإذا أراد الله لك متعة لرؤية كمال وهو “متحلل ومتفكك” كما يقال، لرأيته في مكالمة مع أميرة أو زيارة لبيت محجوب شريف.كان من أمتع الأيام يوم أن طلب مني الذهاب سويا لبيت محجوب أثناء حياة الأخير، والذي جمعتني به محبة قوية كذلك. وصلنا البيت والتحق بنا هناك الصديق دكتور صلاح شريف. صادفنا هناك محمد طه القدال، الذي كانت له زيارات راتبة لمحجوب، خاصة أيام مرضه.وشهدتُ تدفق كمال مع جميع من بالبيت، من بنات محجوب مريم ومي وزوجته أميرة وحتى الأطفال، ومنهم حِمّيد قاسم أمين.(٧)نشبت الحرب الآثمة.كنا نتبادل الأخبار بصفة متقطعة إلى أن اشتد الحصار علينا، وقررت وأسرتي الخروج إلى أمدرمان التي مكثنا فيها لفترة لنغادر منها إلى مصر.تقدمتُ الأسرة ووصلت مصر برفقة الصديق شاكر عبد الرحيم بعد رحلة شاقة بدأناها من أمدرمان إلى أن وصلنا حلفا عن طريق عطبرة-دنقلا، فمكثنا في أسوان ليومين. في القطار ونحن في اتجاهنا إلى القاهرة علمت بواسطة اتصال هاتفي من ابني محمد أن أخته (ابنتي) ملاذ قد أصيبت برصاصة مجهولة المصدر.قضيت أيامًا من التوتر إلى أن اكتشفت عن طريق الصدفة أن كمال وفائزة وابنهما أُبَى في مصر، عندما أرسلت رسالة إلى واتساب أُبَى على ما أذكر. علمت أن الفارق بين وصولهم ووصولي وشاكر استغرق يومين أو ثلاثة عن طريق معبر حلفا.كان كمال وأسرته وأسرة جرجس نصيف قد اختاروا العيش معًا بمدينة الشروق، التي تبعد عن القاهرة نحو ساعة أو ساعة ونصف في أوقات الازدحام المروري.تواصلت مع أُبَى ونسقنا للقاء، وما هي إلا أيام حتى حضروا إلى الدقي حيث أسكن. كان لقاءً مؤثرًا، ونحن من حيث لا ندري لم نتوقع، مثل بقية السودانيين، أن تقودنا الحرب إلى هنا.فحكى كل منا قصته للآخر، وكان خروج كمال وأسرته الأكثر تأثيرًا بعد معاناة واجهوها.تلك مرة وتلتها زيارة واثنتان خاصة، وأن كمال كان يأتي للدقي لإجراء الفحوصات ومعاودة الطبيب.كان من الواضح لي أن كمال، وبعد عملية القلب المفتوح، كان يحتاج إلى مراجعات منتظمة يدعمها ويشجع عليها ابنه أُبَي الطبيب.الحكاوي والحكايات كانت مُتعتنا، وتناول التسالي السوري الذي أصبح محببًا لديهم كلما جاءوا لزيارتي، حتى أن الطلب العزيز لكمال من أي زائر له يسأله أن يأتي له بشيء كان رد كمال جاهزًا تقريبًا وهو:— “في تسالي سوري في طريقكم؟”بعد فترة، تصل أسرتي ويزورنا كمال وأسرته للاطمئنان على ملاذ.كانت لدى كمال مشكلة في المشي، بدأت واضحة للعيان بسبب الركب، مع إرهاق بات يصيبه لأقل مجهود يبذله، إلى أن جاء خبر سقوطه بالحمام وكسْر كاحل قدمه ونقله للمستشفى وإجراء العملية الدقيقة.(٨)قبل ساعات من وفاته كنا نتواصل ونتبادل الضحكات عبر الهاتف. قلت له: اليوم أهدتني منظمة بريطانية مصحفًا ومصلاة، ونسوا أنهم قبل أسبوع كانوا قد أهدوني نفس الهدية.جاء رده وهو يضحك:— يعني جاتك العدة قبل الهداية.طلب مني أن أكتب عن الراحل هاشم كرار، وتأسفَ أنه لم يلتقِ به. كما أوصاني بالتواصل مع صديقنا التشكيلي بمانشستر أحمد سيد أحمد هنا ببريطانيا مع منظمة القلم.حكيت له عن ليفربول وطقسها وطبيعتها حاليًا التي تذكّر بموسكو. فقال: لا تنس أنها مدينة اليسار البريطاني، وأنها المدينة التي عشقها وعاش بها الراحل الدكتور عز الدين علي عامر. كان يتحدث وبه امتلاء بإحساس القدوم إلى هنا.كمال كان يكتب حتى قبل ساعة ونصف من وفاته، كما أخبرني ابنه وابننا المخلص العزيز دكتور أُبي.بموت كمال الجزولي، نبكي صديقًا كبيرًا وخاصًا ومواطنًا سودانيًا استثنائيًا صالحًا. وبموته تبكي أمدرمان عاشقًا من طراز خاص لها ولأزقتها وأحيائها وتاريخ ثقافتها. ويفقد السودان أحد أعمدة الاستنارة والدفاع عن الديمقراطية والمظلومين بعد أن دفع أغلب سنوات حياته في السجون السياسية ومكافحة الأنظمة الدكتاتورية والحكام الظالمين.الناس تعرف كمال الشاعر والمحامي والكاتب والمثقف الضليع، ويا ليتهم لو تعرفوا على كمال الإنسان الذي حاولت أن أُضئ جوانبه، تلك التي لا يكشف عنها إلا بعد كد وتعب منك لمعرفته، فتدهشك إنسانية نادرة وباذخة وكرم وشجاعة وإيمان بالمستقبل لصالح مشروع التحول الديمقراطي بالسودان.لك الرحمة والمغفرة يا شقيق الروح ، فقد عشنا عقودًا من الصداقة المحتشدة بالدراما ومعاناة المحبة لبلدنا الذي حلمنا برؤيته سالمًا غانمًا متمتعًا بالتقدم والرقي.The post كمال الجزولي – غصن الرياض المائِد بالمحبة وإحسان صداقة الآخر appeared first on صحيفة مداميك.