بين تعبئة الحرب وحاجة الوطن إلى السلام: قراءة في خطاب الفريق البرهان

Wait 5 sec.

مهدي داود الخليفةفي لحظةٍ تقتضي من الجميع الارتفاع فوق جراح السياسة والاصطفافات الضيقة، وتحمل المسؤولية الوطنية تجاه ما تبقى من جسد البلاد المنهك، خرج الفريق أول عبد الفتاح البرهان بخطابٍ جديد يدعو فيه إلى “التعبئة العامة” ورفض المفاوضات، مؤكداً أن الحرب لن تتوقف إلا بانتهاء “التمرد”، وأن على كل قادر على حمل السلاح الالتحاق بصفوف القتال.جاء الخطاب في وقت بلغ فيه الإنهاك الوطني مداه، وتحوّلت الحرب من مواجهةٍ عسكرية إلى كارثةٍ إنسانية وأمنية تُهدد وجود الدولة نفسها.على مدى عامين ونصف، دفع السودانيون أثماناً تتجاوز ما يمكن لأي مجتمع احتماله:أكثر من 11.5 مليون نازح داخل البلاد.أكثر من 4 ملايين لاجئ في دول الجوار.نحو 21 مليون شخص يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد.تفشّي الكوليرا وحمى الضنك وانهيار شبه كامل للنظام الصحي.توقف المدارس عن أكثر من 14 مليون تلميذ.ما يقارب 400 ألف قتيل منذ اندلاع الحرب.ورغم هذا النزيف الهائل، لم يجد السودانيون من القيادة سوى مزيد من الدعوات لمواصلة القتال، بينما تتجه كل دول المنطقة إلى تعبئة شعوبها لإعادة الإعمار، ويُدفَع السودانيون وحدهم إلى جبهات الحرب ويُسدّ أمامهم طريق الحياة.ألقى البرهان خطابه من منطقة السريحة بولاية الجزيرة، المنطقة التي شهدت إحدى أبشع المجازر خلال اجتياح قوات الدعم السريع للولاية.غير أنّ المفارقة المؤلمة أنّ أبو عاقلة كيكل—المتهم الرئيسي في تلك الجرائم—يقاتل اليوم ضمن صفوف الجيش، دون أي مساءلة أو محاسبة.وهنا يبرز سؤال مشروع:كيف يمكن إقناع الشعب والعالم بجدية الدولة في “القضاء على المجرمين” بينما أبرز المتهمين في مذابح الجزيرة يقاتل اليوم تحت رايتها؟إن بناء دولةٍ حقيقية أو سلامٍ قابل للحياة يبدأ بفتح أبواب العدالة على الجميع بلا استثناء — وفي مقدمتهم من ارتكبوا الانتهاكات الموثقة في الجزيرة ودارفور والخرطوم.لا يمكن قراءة خطاب الفريق البرهان بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي.فالرباعية الدولية ما تزال تدفع باتجاه هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر، بينما ظلّ الجيش متمسكاً بالخيار العسكري ورافضاً أي نقاش قبل “الاستسلام الكامل” و“تجميع القوات”.لكن هذا المسار، مهما بدا حاسماً في ظاهره، يحمل مخاطر استراتيجية كبرى:عزل السودان سياسياً عن الإجماع الدولي المتنامي المطالب بوقف الحرب.إضعاف الموقف الرسمي وحرمان البلاد من أي دعم سياسي أو إنساني إلا بعد تغيير هذا الخطاب.دفع السودان نحو سيناريو التآكل البطيء، حيث تمتد الحرب من ولاية لأخرى دون أفق لنهاية واضحة.ليس طريق الخلاص في الاستنفار ولا في إطالة أمد القتال. فالتعبئة التي يُعاد طرحها منذ ثلاثة أعوام لم تنتج سوى مزيدٍ من الموت والدمار، ولم تُقرب البلاد خطوةً واحدة من الاستقرار.إن التمسك بالحرب بوصفها “الخيار الوحيد” لا يؤدي إلى نصر، بل يكرّس نموذجاً واضحاً لما تُسميه الدراسات العسكرية حروب الإنهاك المزمنة: حروبٌ تُستنزف فيها الأوطان بينما تربح منها قلة من الفاسدين والمجرمين على حساب دماء الشعب ومستقبل الدولة.والحقيقة البسيطة هي: لا حل للحرب إلا بوقف الحرب. وكل ما عدا ذلك مجرد أوهام تُباع للناس بثمنٍ فادح.الخاسر الأول — وربما الوحيد — في هذه الحرب هو الشعب السوداني:*الأطفال المحاصرون في المخيمات*المرضى بلا دواء*الأمهات اللواتي فقدن بيوتهن ومعاشهن*ملايين الشباب المحرومين من التعليم والعمل*مدنٌ تُقصف، وقرى تُحرق، ومجتمعٌ يتآكل ببطءوفي المقابل، تستفيد فئة صغيرة من أمراء الحرب وقادة المليشيات وبعض النافذين في الدولة ممن يستغلون اقتصاد الذهب والفوضى الأمنية. وقد أشار محافظ بنك السودان السابق إلى أن قيمة الإنتاج الحقيقي للذهب تُقدَّر بنحو سبعة مليارات دولار سنوياً، بينما لم يدخل خزينة بنك السودان سوى مليار واحد فقط.إن دماء الشعب أطهر من أن تُسفك من أجل حفنة من تجار الحروب.مسؤولية الدولة اليوم لا تكمن في دعوة الشعب لحمل السلاح، بل في:إعلان وقفٍ فوري وشامل لإطلاق النارفتح المسارات الإنسانية دون قيودالجلوس إلى طاولة المفاوضات برعاية دولية–إقليمية ذات مصداقيةوقف خطاب الشيطنة والتحريضتقديم مرتكبي الجرائم للعدالة، وطنية كانت أو دوليةوأكثر ما يضر البلاد اليوم هو الإصرار على خطاب “الحسم العسكري الكامل”، في وقت لم يعد السودان يحتمل شهراً آخر من الحرب، ناهيك عن سنوات.إن أي دعوة إلى الاستمرار في الحرب، أو رفضٌ للنداءات الدولية للسلام، ستنعكس سلباً على الوطن بأكمله، وستحرم البلاد من الاستفادة من الإجماع الدولي المتنامي الداعي لوقف الحرب فوراً.وهذا الإجماع — إن أُحسن استثماره — قد يكون آخر فرصة لوقف النزيف قبل أن يتجاوز السودان نقطة اللا عودة.إنّ القيادة التي تملك الشجاعة هي التي تُعلن نهاية الحرب، لا بدايتها.والزعيم الحقيقي هو من يوقف النزيف، لا من يضيف إليه جراحاً جديدة.وإذا كان السودان قد اختُطف بأيدي أبنائه، كما كتب بعض الباحثين، فإنّ تحريره لن يكون إلا بإرادة وطنية صادقة تُقدّم السلام على الحرب، والإنسان على البندقية، والمستقبل على الأوهام.على الفريق البرهان، وعلى كل من يملك سلطة القرار، أن يدركوا أن الشعب لم يعد يحتمل، وأن الوطن لم يعد يتسع لمزيدٍ من المغامرات العسكرية التي تعمق الجراح و تبدد ما تبقي من مقومات البقاء..فالسلام ليس تنازلاً… بل هو الحكمةٌ التي تحمي الدولة و النجاة لما تبقي من وطن يطلب الحياة.،The post بين تعبئة الحرب وحاجة الوطن إلى السلام: قراءة في خطاب الفريق البرهان appeared first on صحيفة مداميك.