حمّور زيادة يكتب: مَن يريد هدنةً في السودان؟

Wait 5 sec.

انتقلت الحرب السودانية إلى واشنطن، لتشرف الولايات المتحدة بشكل مباشر على التفاهمات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. حرصت الخارجية السودانية على أن تؤكّد أنها ليست في مفاوضاتٍ مع عدوّها، إنما هو حوار مع الحكومة الأميركية حول الأوضاع في السودان. وصعّدت الرباعية الدولية (الولايات المتحدة ومصر والسعودية والإمارات) من ضغوطها لفرض هدنة إنسانية. لكن ذلك كلّه لم يُجدِ، إذ رفض الجيش، مراراً، على لسان القائد العام وعدد من القيادات، ومجلس السيادة ووزارة الخارجية، أيَّ هدنة أو وقف لإطلاق النار، لكنّه أكّد أنه لا يرفض السلام.أمّا مليشيا الدعم السريع التي أعلنت موافقتها على الهدنة حرصاً منها (كما تدّعي) على السلام، فقد واصلت انتهاكاتها في مدينة الفاشر، حتى رصدت جامعة ييل الأميركية دماء الضحايا عبر الأقمار الأصطناعية. كشفت الجامعة مواقع لمقابر جماعية في المدينة التي سقطت بعد حصار طويل “لقد رأينا دماءهم من الفضاء! لكنّنا عجزنا (في الأرض) عن إنقاذهم”.تقول ناجية نزحت من المدينة القتيلة لوزير المالية السوداني (الذي يقود أيضاً مليشيا مسلّحة متحالفة مع الجيش): “نخشى على الذين تركناهم خلفنا”. فيقول لها الوزير: “أولئك لهم الله”. لا شيء يمكن فعله لمساعدة المدنيين. فحملة السلاح لا تهمّهم هذه المعاناة. بل ربّما هي مفيدةٌ لهم. لكنّهم يتحدّثون عن السلام. يطلقون الرصاص ويتحدّثون عن السلام.في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1939، ألقى أدولف هتلر خطاباً بعد غزو بولندا قال فيه: “لا أرى مبرّراً لاستمرار الحرب بين ألمانيا وبريطانيا، الحرب لا تخدم إلا أعداء أوروبا”. حتى بعد أن أرسل جيشه ليحاصر ستالينغراد، قال إنه دائماً ما كان يريد السلام، “لكنّ اليهود جرّوا إنكلترا وروسيا إلى حرب مدمّرة”. الرجل الذي دخل التاريخ الإنساني واحداً من أبشع الطغاة والسفّاحين، ظلّ يردّد حتى لحظة حصاره في مبنى المستشارية أنه يريد “السلام”، وأن الحرب فُرِضتْ عليه. مات الطاغية وهو مؤمن بأنه كان يدافع عن بلده، وأنه لم يسعَ إلى الحرب. نحو 70 مليون إنسان كانوا ضحايا حبّ النازيين لـ”السلام”. يعلّمنا التاريخ أنه حتى أبشع الطغاة يحارب وهو يزعم أنه يبحث عن “السلام”.في الوقت نفسه الذي يتبادل فيه طرفا الحرب قبول الهدنة ورفضها، تسعى المؤسّسات الدولية إلى محاولة إقناع الطرفَيْن بإدخال المساعدات الإنسانية بأيّ شكل. فيزور منسّق الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة مدينة بورتسودان (العاصمة البديلة تحت سيطرة الجيش السوداني) ومدينة الجنينة (تحت سيطرة “الدعم السريع” بعد مذبحة كبرى). لكنّ الطرفَيْن لا يثقان بالمجتمع الدولي ولا يؤمنان بأن الإغاثة ستعين أيَّ أحدٍ إلا المتقاتلين. لذلك يسعيان لتأخير دخولها ما استطاعا. ولكن ذلك لن يستمرّ طويلاً، فقد أصبح الملفّ الإنساني هو المدخل الرئيس لعدد من المهتمّين بالملفّ السوداني، خاصةً بعد المذابح التي ارتكبتها “الدعم السريع” في مدينة الفاشر. جذبت جريمة الحرب هذه أنظاراً ما كانت قوات الدعم السريع تسعد لتسليطها عليها. وبدا الجيش سعيداً بها، لأنها أدانت عدوّه وقرَّبت من إعلانه منظّمةً إرهابيةً، لكنّه لم يرضَ عن الدعوات إلى وقف الحرب التي تلت الاهتمام الدولي والإدانة.يحدث ذلك بينما لا يزال اثنان من كل ثلاثة سودانيين بحاجة إلى المساعدة، حسب تصريح منسّق الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة. يرفض الجيش الاعتراف بوجود مجاعة، وترفض “الدعم السريع” الاعتراف بوجود مذابح. وينكر الطرفان أيَّ جرائمَ ممنهجة، ويزعمان أن الإدانة الدولية هي جزء من مؤامرة، وأن الجرائمَ كلّها انتهاكات فردية.تشتكي المنظّمات الدولية من أن ما غُطِّي من حاجة المدنيين السودانيين لا يتجاوز 10%. لا تجد الإغاثة للمدنيين تمويلاً كافياً، بينما لا ينقطع السلاح عن المتقاتلين. ولا تعجز أيُّ مليشيا قَبَلية جديدة عن الحصول على تسليح كافٍ، لكن “يونيسف” (منظمة الأمم المتحدة للطفولة) تحاول عبثاً جمع تمويل كافٍ لمساعدة نحو 15 مليون طفل سوداني.تقدّرالمنظمة الدولية عدد الأطفال السودانيين تحت سنّ خمس سنوات الذين يعانون من سوء التغذية الحادّ بأكثر من ثلاثة ملايين طفل، وارتفعت نسبة احتمال الوفيات إحدى عشرة مرّة. الهدنة التي تنقذ هؤلاء لا تفيد حملةَ السلاح، يفضلّون الدماء التي تُرى من الفضاء.