“نحن اخوانك يا بليد”

Wait 5 sec.

لبنى إدريسفي زمن أصبحت فيه السوشيال ميديا جزءاً من تفاصيل يومنا، تحولت منصات يفترض أن تكون مساحة للتواصل والمعرفة إلى ميادين صراع تُدار فيها المعارك بالكلمات بدلاً من الرصاص. صار السودانيون يعيشون انقساماً غير مسبوق، انقساماً لا يصنعه اختلاف الرأي، بل يصنعه العنف اللفظي، والإدانة السريعة والتخوين المجاني.فجأة أصبح كل شخص قاضياً وجلاداً وكل اختلاف يُعامل كتهديد، وكل رأي يُستقبل وكأنه إعلان حرب.والسؤال الذي لا مهرب منه ، إلى أين نجرّ أنفسنا بهذا السلوك؟ما نعيشه اليوم لا يشبه المجتمع السوداني الذي نعرفه، أصبح البعض يخاف من التعبير ليس لأن رأيه خطأ، بل لأن الجو العام مسموم لدرجة أن كلمة واحدة قد تكلفك سمعتك، أو تُلصق بك تهمة أو تدخلك في عراك لا ينتهي.فقدنا قدرتنا على الحوار وصرنا نتعامل مع كل من يخالفنا كعدو لا كشريك في الوطن.ومع وجود حرب حقيقية على الأرض تحصد الأرواح لازال هناك من يُصرّ على إشعال حرب ثانية على المنصات، حرب بالكلمات لا تقل قسوة عن رصاص الواقع. واضافة للدمار المادي الذي نراه في الشوارع، نضيف له دماراً نفسياً واجتماعياً نصنعه بأيدينا دمار لأجيال قادمة وخلق نفوس مشوهة لا تعرف إلا الكره والتخوين وكأن السودان لا يكفيه ما هو فيه.ولا يمكننا تجاهل ظاهرة غاية في الغرابة فاقمت الوضع وهي ظهور فئة تصنع لنفسها “بطولة” زائفة على المنصات ضجيج بلا فعل، ادعاءات بلا أثر ووقاحة غير مبررة وجرأة افتراضية لا يملكون عُشرها في الواقع.هؤلاء ليسوا أصحاب رأي بل مجرد باحثين عن اهتمام، أشخاص  أصحاب مقدرات محدودة  لا وجود لهم خارج الشاشة، ولا مساهمة لهم في الأرض أو في أي عمل حقيقي. ومع ذلك يملؤون الفضاء الإلكتروني صراخاً وتحريضاً وتعالياً، يوزعون الاتهامات يساراً ويميناً ويبنون حضورهم على هدم الآخرين.إلى جانبهم ظهرت غرف مدفوعة الأجر تُدار باحترافية في صناعة الفتنة، غرف تُشعل الخلاف عمداً، وتضخم الصغائر، وتحوّل أي اختلاف بسيط إلى معركة، فقط لأن “الاشتعال” يجلب المشاهدات والمال والتأثير.والأسوأ أن كثيرين ينساقون وراء هذا الضجيج… دون أن يسألوا أنفسهم: هل نحن نقاتل لأجل الوطن أم لأجل معارك افتراضية لا قيمة لها؟السوشيال ميديا تضخم كل شيء، تجعل الخلاف شخصياً، وتجعل الناس أكثر قسوة مما هم عليه في الواقع، الشخص الذي يرفع صوته خلف الشاشة قد تجده في الحياة الطبيعية أهدأ بكثير، وأقدر على الاستماع، وأكثر إنسانية، لكن خلف الشاشة تختفي الوجوه وتظهر الوحشية.ومع وجود حسابات موجهة وحملات منظمة لتمزيق الرأي العام، صار من السهل جداً أن نضيع وأن ننشغل بمعارك ليست معاركنا، وننسى أن أولويتنا ليست الانتصار في نقاش بل إنقاذ بلد.الوطن الجريح الذي ينزف في كل زاوية يحتاج منا أن نكون أذكى من هذا التلاعب وأقوى من هذا الاستقطاب، وأكثر وعياً من الانجرار خلف غرفٍ تُشعل النار لمصلحتها.الوطن لا يحتاج صراخاً ولا يحتاج منصات مشتعلة، ولا يحتاج أبطال “كيبورد”. يحتاج رجاحة عقل، واحترام اختلاف، وقدرة على أن نضع مصلحة السودان فوق أي شعور شخصي أو غضب مؤقت.الحصة وطن…وإذا واصلنا إشعال الحرب بالكلمات كما تُشعل الحرب بالرصاص، فلن يبقى لنا وطن لنتجادل لأجله.ويا لفراغ البصيرة حين نتجاهل أبسط ما يمكن أن يعيدنا إلى إنسانيتنا… تلك الجملة التي ظنّها البعض مزحة أو سخرية، بينما هي في الحقيقة صرخة وعي اختُزلت في كلمات “نحن أخوانك يا بليد.”كانت بداية كان يجب أن تكون النهاية… أو لعلها كانت البداية الأخيرة التي لو وعينا معناها لما وصلنا إلى هذا المستوى من التمزق. ما أعمقها من عبارة، وما أثقل معناها على واقعٍ صار فيه الأخ يقف في الضفة المقابلة لا لأنه عدو حقيقي بل لأننا نسينا أننا إخوة قبل كل خلاف، وأن ما بيننا أكبر من كل ضجيج المنصات والسياسات.The post “نحن اخوانك يا بليد” appeared first on صحيفة مداميك.