مهدي داود الخليفةفي زمنٍ أصبح فيه الموت أكثر رحمة من الحياة، يهرب شباب السودان من أتون الحرب إلى المجهول، بعضهم إلى البحر بحثًا عن دولة تمنحهم فرصة البقاء، وبعضهم إلى ميادين قتالٍ غريبة يقاتلون فيها لا عن وطنٍ أو مبدأ، بل عن ثمنٍ يطيلُ حياتهم شهرًا آخر. صارت الحياة والموت صنوانًا في معادلةٍ سودانية قاسية، لا تُنتج سوى المزيد من الألم والفقد.ثلاث سنواتٍ من الحرب والدمار وإغلاق المدارس وغياب الأمل حولت الشباب إلى وقودٍ للحروب، ومصدرٍ للارتزاق السياسي والعسكري، في بلدٍ كان يفترض أن يكون مهدًا للكرامة والحرية.الهروب لم يعد خيارًا فرديًا، بل أصبح ظاهرة وطنية تنذر بانهيار الأجيال القادمة.آلاف الشباب السودانيين اليوم يغامرون بحياتهم في عرض البحر، عبر طرق الموت في ليبيا وتونس والبحر المتوسط، أملاً في الوصول إلى أوروبا. كثيرون منهم يبتلعهم الموج دون أن يصل نبأهم إلى أحد.في الداخل، هناك جيل آخر من الشباب وجد نفسه بين حربٍ لا يفهمها، واقتصادٍ لا يرحمه، ودولةٍ لا تعرفه.هؤلاء صاروا هدفًا سهلاً للتجنيد — سواء من قبل الميليشيات المحلية أو القوى الأجنبية — بعدما أغلقت الدولة أمامهم أبواب التعليم والعمل والكرامة.وهنا يبرز السؤالٌ المؤلم: ماذا يعني أن يرفض هؤلاء الشباب القتال دفاعًا عن وطنهم، ثم يذهبوا طوعًا للقتال في حروبٍ لا تخصهم ولا تعني لهم الكثير؟إنه تعبيرٌ صامت عن انكسار العلاقة بين المواطن والدولة، عن فقدان المعنى الوطني، حين لا يعود الوطن بالنسبة للشاب أكثر من جغرافيا طاردة، ومؤسساتٍ عاجزة، ونخبٍ لا ترى فيه إلا وقودًا لحروبها.لقد فقدت “فكرة الوطن” قدرتها على الإلهام، حين تحوّل السودان في نظر شبابه من مساحة للانتماء إلى سجنٍ للفقر واليأس. وهكذا، يصبح الموت في أرضٍ بعيدة أكثر كرامة من حياةٍ بلا كرامة في وطنه.منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية عام 2022، بدأت موسكو في البحث عن مقاتلين أجانب لتعويض خسائرها البشرية. وبحلول عام 2023، ظهرت أسماء سودانية في معسكرات التدريب الروسية، بعضهم جُند عبر وسطاء في انجمينا وطرابلس، وآخرون عبر شبكات مرتبطة بمجموعة “فاغنر” الروسية، التي أعادت تشكيل نفسها تحت مسمى “فيلق أفريقيا”.التقارير الحقوقية، ومنها تقارير هيومن رايتس ووتش ونيويورك تايمز، تُشير إلى أن عدد السودانيين المجندين في الجيش الروسي تجاوز خمسة آلاف مقاتل حتى منتصف عام 2025، والرقم في ازدياد، قُتل منهم قرابة ثمانمائة شاب في الجبهات الأوكرانية.العروض مغرية: رواتب شهرية بين 2000 و5000 دولار، وجنسية روسية خلال ستة أشهر، وسكن وإعاشة مجانية. لكن الواقع أكثر قسوة: تدريب سريع لا يتجاوز أربعة أسابيع، وزجّ بالمقاتلين السودانيين في الخطوط الأولى للهجمات، حيث الموت شبه المؤكد.أحد المقاتلين السودانيين قال في حديثٍ لمنظمة حقوقية:“العقد لا يُفسخ. من يدخل الجبهة لا يخرج إلا ميتًا أو معطوبًا.”تاريخ الارتزاق السوداني في الحروب الخارجية ليس جديدًا.فقد كشف الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) عام 2019 أن نحو 30 ألف جندي سوداني، معظمهم من قوات الدعم السريع، قاتلوا في حرب اليمن.كما صرح السيد مالك عقار – نائب رئيس مجلس السيادة الحالي – بأن إرسال القوات إلى اليمن كان “اتفاقًا رسميًا ومصدر دخلٍ مهم يفوق بعض الصادرات”، مضيفًا بأن “الجنود مصيرهم العودة أو الشهادة”، في تصريحٍ يجرد الشباب من حقهم في الحياة والاختيار.هذه العقلية هي ذاتها التي دفعت آلاف الشباب اليوم إلى حمل السلاح خارج حدود الوطن، بحثًا عن المال أو النجاة من واقعٍ مسدود.وفي ظل هذا الانهيار، ومع اتساع رقعة الفقر والبطالة، يلوح في الأفق خطرٌ أعظم: استقطاب الجماعات الإرهابية للشباب السودانيين، خاصة في المناطق الحدودية مع تشاد ومالي والنيجر، حيث ظهرت مؤخرًا خلايا تابعة لتنظيم داعش في الساحل الأفريقي.وإن لم تتدارك الدولة الأمر، فقد يتحول هؤلاء الشباب، الذين فقدوا الثقة في وطنهم، إلى أدوات في يد تنظيماتٍ عابرة للحدود، تموّلها جهاتٌ لا تريد للسودان أن ينهض من رماده.ليس الفقر وحده ما يدفع الشباب إلى الارتزاق، بل غياب الأمل الوطني.حين يرى الشاب أن لا مستقبل له في وطنه، ولا تعليم ولا أمان ولا قيادة رشيدة، يصبح الموت في حربٍ بعيدة أقلَّ قسوة من الحياة في وطنٍ لا يسمع صوته.إن القيادة السياسية والعسكرية في السودان تتحمّل المسؤولية المباشرة عن هذا النزيف البشري، لأنها حوّلت الشباب إلى وقودٍ للحروب الداخلية والخارجية، بدلاً من أن تجعلهم طاقة للبناء والتنمية.ولغة الأرقام تتحدث:أكثر من 14 مليون طالب حُرموا من التعليم منذ 2023 بسبب الحرب.نسبة البطالة بين الشباب تجاوزت 62% بحسب تقارير البنك الدولي.نحو 4000 شاب سوداني حاولوا عبور المتوسط إلى أوروبا خلال عام 2024 وحده، غرق المئات منهم.ارتفعت نسبة الفقر إلى 71.4%، أي ما يعادل 23 مليون سوداني تحت خط الفقر، إلى جانب 16 مليون نازح و5 ملايين لاجئ.المنظمات الأممية تحذر من أن استمرار الحرب سيجعل السودان أكبر مصدرٍ للمهاجرين والمرتزقة في أفريقيا بحلول عام 2026.إنّ ما يجري اليوم ليس مجرد مأساة إنسانية، بل نذير بانهيارٍ وطني شامل.حين يصبح الشاب السوداني مرتزقًا في حربٍ لا تخصه، أو غريقًا في بحرٍ لا يعرفه، فذلك يعني أن الوطن نفسه يلفظ أبناءه.النجاة ليست في البحر ولا في الجبهات البعيدة، بل في سلامٍ عادلٍ يعيد للوطن معناه، وللشباب مكانهم في بناء مستقبلٍ يستحقونه.ومن يزرع اليأس في نفوس الشباب، يحصد المرتزقة على حدود الوطن.The post الارتزاق العابر للحدود: من الخرطوم إلى موسكو حين يبحث شباب السودان عن النجاة في الموت appeared first on صحيفة مداميك.