مهدي داود الخليفةفي الحوار الذي أجراه الفريق عبد الفتاح البرهان مع الأستاذ حسن إسماعيل، برزت مجموعة من الرسائل التي تستدعي وقفة تحليلية متأنية، ليس فقط لفهم مواقفه من الأحداث الجارية، بل لاستكشاف مدى استعداده الشخصي والسياسي للسلام. لقاء الفريق البرهان مع حسن إسماعيل لم يكن مجرد حوارٍ إعلامي، بل رسالة سياسية موجَّهة إلى الداخل العسكري والخارج الدبلوماسي في آنٍ واحد.أهم ما جاء في حديث الفريق البرهان في هذا اللقاء: انتقاد مباشر للمبعوث الأمريكي مسعد بولس، مؤكداً أن نجاح أي وساطة يقتضي تبني خريطة الطريق التي قدمها الجيش. رفض مبدأ أن سقوط الفاشر قد يفتح باباً للهدنة، مشدداً على استمرار الحرب حتى “استعادتها”. اتهام صريح لدولة الإمارات بالتورط في دعم تمرد الدعم السريع، واستشهاده بعرض أدلة رقمية (21 فلاشاً) في لقاء حضره مبعوثها الشيخ شخبوط بن نهيان وممثلون أمريكيون. تحميل المجتمع الدولي مسؤولية الصمت، واتهامه بالتقاعس عن قول كلمة “لا للحرب” للإمارات. توظيف “انفعال الشارع السوداني بسقوط الفاشر” لتبرير استمرار العمليات العسكرية وتحميل الجيش مسؤولية الرد.هذه المواقف الواردة في إجابات الفريق البرهان تكشف عن انه مازال ينظر إلى الحرب كخيارٍ مشروع وممكن، لا ككارثة وطنية يجب وقفها. ويبدو أن الفريق البرهان يرى في استمرار القتال وسيلة لإعادة التوازن الداخلي، لا بوابةً لسلامٍ شاملٍ يعيد بناء الدولة.حديثه يحمل مزيجاً من الدفاع السياسي والمناورة التكتيكية، من خلال: تبرير الحرب بخطاب “المؤامرة الخارجية” ودور الدعم الأجنبي في إشعال التمرد.إظهار انفتاحٍ مشروط على الوساطات الدولية، بشرط أن تتبنى رؤية وخارطة الجيش.هذا الموقف لا يرفض السلام مبدئياً، لكنه يريده سلاماً مشروطاً برؤية المؤسسة العسكرية، لا بشروط القوى المدنية أو المجتمع الدولي.و يظل السؤال لماذا يتلكأ الجيش في الانخراط في خطة الرباعية؟ السبب الأعمق هو غياب الرؤية السياسية الشاملة داخل المؤسسة العسكرية.فالقرار لا يزال أسيراً للعقلية الأمنية التي تدير الأزمات بلغة الميدان لا بلغة الدولة. الجيش يقاتل دون مشروعٍ سياسي واضح لما بعد الحرب، مما يجعل كل مبادرة سلام تُقرأ بعيونٍ عسكرية لا وطنية.تخشى القيادة العسكرية أن يُفسر وقف إطلاق النار كضعفٍ أو تنازل، وتطالب بضمانات ميدانية قبل أي التزام سياسي. هذه المقاربة تجعل المسار السياسي رهينةً للحسابات العسكرية، وتُبقي السودان في دائرةٍ مغلقةٍ من الحرب والجمود.يُلاحظ وجود ازدواجية في خطاب الفريق البرهان تتأرجح بين الداخل والخارج:في الداخل، يتحدث بلغة السيادة ورفض الإملاءات. اما في الخارج، يُبدي استعداداً للحوار والانفتاح.هذه الازدواجية تُضعف المصداقية وتُعمّق عزلة السودان دبلوماسياً، خاصة مع استمرار اللهجة العدائية تجاه المجتمع الدولي، ما يعيد إنتاج ذهنية ما قبل ثورة ديسمبر 2018..الفريق البرهان يتحرك وسط توازنات دقيقة داخل الجيش، بين تيارٍ متشدد يرى الحرب وسيلة للحسم، وتيارٍ آخر يميل إلى التسوية.أي خطوة غير محسوبة قد تفجّر صراعات داخلية تهدد موقعه القيادي.إلى جانب ذلك، يظل نفوذ الحركة الإسلامية حاضراً بقوة في بنية القرار العسكري، وهي ترى في الحرب فرصة لاستعادة نفوذها الذي فقدته بعد الثورة.البيان الأخير للمجموعة الرباعية تضمّن إشارة صريحة إلى أن من تلطخت أيديهم بالانتهاكات لن يشاركوا في المرحلة الانتقالية القادمة، ما يعني عملياً إقصاء التيار الإسلامي من المشهد، وهو ما يدفعهم لعرقلة أي عملية سلام جادة.من خلال اللقاء وضح ان الفريق البرهان لا يرفض السلام، لكنه غير مستعد لتحمل كلفته السياسية، إذ يدرك أن الانخراط الجاد في مسار الرباعية سيعني:~ فتح ملفات المساءلة عن جرائم الحرب.~ فقدان دعم التيار الإسلامي.~ تقلص نفوذه الشخصي داخل المؤسسة العسكرية.لذلك، يسعى إلى إطالة أمد التفاوض مع إبقاء الحرب مشتعلة، على أمل تحسين موقعه في أي تسويةٍ مستقبلية. غير أن هذا التباطؤ يحمل نتائج خطيرة:* استمرار نزيف الدم وتعميق المأساة الإنسانية.* تآكل الثقة الدولية في القيادة الحالية.* اتساع النفوذ الإقليمي على حساب القرار الوطني.* إضعاف موقف الجيش التفاوضي مع مرور الوقت.* احتمال تصاعد الخلافات داخل المؤسسة العسكرية نفسها.المطلوب اليوم ليس سلاماً مفروضاً من الخارج ولا حلاً عسكرياً مستحيلاً من الداخل، بل رؤية وطنية متوازنة تستند إلى خمسة أعمدة رئيسية:1. وقف شامل لإطلاق النار برعاية دولية وإشراف وطني شفاف.2. حوار سوداني مدني–عسكري يفضي إلى انتقالٍ مدني متوازن.3. تحييد الحركة الإسلامية عن القرارين السياسي والعسكري.4.إعادة بناء الثقة مع المجتمع الدولي عبر دبلوماسية واقعية تحفظ السيادة وتستعيد الاحترام5. تظلُّ القوّاتُ المسلّحةُ السودانيّة هي القوّةَ الوطنيّةَ الشرعيّةَ الوحيدةَ المخوَّلةَ بحملِ السلاحِ واستخدامِ القوّةِ، في إطار القانون والدستور، حفاظاً على سيادةِ الدولةِ وأمنِها واستقرارِهاإن قراءة حديث الفريق البرهان تكشف أن السلام لم يتحول بعد إلى قناعة استراتيجية داخل المؤسسة العسكرية، بل ما يزال أسيراً للمخاوف والمناورات.غير أن استمرار الحرب لن يصنع نصراً، ولن يحفظ السيادة، بل سيُدمّر ما تبقّى من الدولة.لقد بلغت اللحظة التاريخية ذروتها، ولم يعد أمام الفريق البرهان إلا خياران واضحان:إما أن يكون قائد سلام وطني ينقذ السودان،أو أن يبقى أسير حربٍ بلا نهاية تقود إلى تفكك السودانThe post رؤية تحليلية حول لقاء الفريق عبد الفتاح البرهان مع الأستاذ حسن إسماعيل وزير الإعلام السابق appeared first on صحيفة مداميك.