أحمد محمود أحمديفكك هذا المقال وعبر الحرب التي اشعلتها الحركة الإسلامية الخطاب الذي أنتجته هذه الحركة والذي يقع ضمن خطابات قد انتجتها الحركة الإسلامية عبر تطورها وكلها خطابات فارغة المحتوي والمضمون..واليوم وعبر شعارات “الكرامة” تحاول هذه الحركة ومن خلالها أن تمنح نفسها شرعية أخلاقية حيث تسعى إلى تحويل الحرب إلى قيمة، والدم إلى معنى، وتوجيه الصراع بكونه يقع ضمن دائرة الوطنيين والغزاة في إشارة ماكرة لقوات الدعم السريع التي أنشأتها هذه الحركة، ويقع كل ذلك ضمن عملية خلط مقصودة بين البطولة الزائفة والمأساة الحقيقية التي يعيشها السودانيون اليوم جراء هذه الحرب.. ومن خلال هذا التشويش القيمي، تسعى الحركة الإسلامية إلى إعادة إنتاج ذاتها كفاعل أخلاقي وتحاول تجيير المعاني الإنسانية لصالحها ، بينما هي في الواقع تمارس نقيض هذه المعاني من حيث الجوهر والممارسة معًا، وضمن هذا السياق يأتي شعار “الكرامة” والذي ربطت الحركة الإسلامية هذه الحرب به مما يتحول معه هذا الشعار الي خطاب ينزع مضمون “الكرامة” نفسها لأن المصدٌر والمشرٌع لهذا الشعار يفتقد جوهر المعني الإنساني، لأن هذا الجوهر يرتبط بالآخرين ومدي القدرة علي احترام ارادتهم، كما يتطلب ذلك وجود عقل يدرك قيمة الإنسان ولا يفسد الواقع عبر ممارسات تتناقض مع تطلعات هذا الإنسان، لكن وعلي النقيض من ذلك يتأسس عند هذه الحركة عقل يمكن أن نطلق عليه العقل الفاسد، إذن ما هو العقل الفاسد؟؟ العقل الفاسد هو عقل يفكر دوما داخل بنية زائفة، ولهذا يقوم بتزييف الواقع حيث يجعل من الحرب كرامة والاستبداد نظاما والفساد تمكينا والولاء إيمانا..فهذا العقل يعمل ضمن منظومة متكاملة تكافئ النفاق وتعاقب الصدق فهو لا يخطئ في المعلومة ولا في الشعار فحسب، بل في بنية التفكير نفسها، ولهذا فعندما يفقد الإنسان القدرة علي الشعور بالذنب أو علي التمييز بين الخير والشر يصبح العقل ذاته أداة لتبرير الفساد بدلا من مقاومته.. اذن وفق هذه القراءة فان كل ما ينتج عبر هذا العقل الفاسد فهو بالضرورة فاسد ومن ضمن هذا يقع شعار “الكرامة” الذي أدخلته الحركة الإسلامية في مجري هذه الحرب المدمرة والذي يأتي كشعار متعالي ليس لديه صلة بطبيعة حرب داخلية يْقتل فيها الإنسان السوداني عبر بندقية من يعيش معه داخل هذا الوطن، وليس عبر هجوم خارجي يستهدف الأرض والوطن..كما أن هذا العقل وبطبيعته فهو عقل لجوج، فهو لا يجيد الحرب ولا يعرف أسس السلام، ولهذا فقد ادخل السودان في هذا المأزق التاريخي والذي لم يستطع معه هذا العقل كسب الحرب ومع هذا يرفض التفاوض، وبهذا المعني فهو عقل لا إدراكي يسير بالبلاد نحو الكارثة ويحكم الواقع عبر الشعار وحده اي شعار “الكرامة”.العقل الفاسد لا يجيد الحرب ولا يعرف أسس السلام..الكرامة كمفهوم إنسانيالكرامة ليست شعارًا يُرفع في زمن الحرب وكما تفعل الحركة الإسلامية اليوم، بل هي جوهر إنساني عميق يتصل بقيمة الإنسان في ذاته، و حين يقٌدر هذا الإنسان ذاته ويحترمها ويعترف به الآخرون و بإنسانيته ، و اذا ما بحثنا عن الاعتراف من قبل السودانيين للحركة الإسلامية بالكرامة فان غالبية السودانيين قد شهدوا كيف داست الحركة الإسلامية علي كرامتهم أثناء حكمها للسودان عبر السجون والاعتقالات والحروب والفقر، ولهذا لا تعترف هذه الغالبية الا بإجرام الحركة الإسلامية وتمزيقها للوطن حيث وضمن مدلول أكثر عمقا فالكرامة تعني الحرية، والعدالة، والمسؤولية الأخلاقية، وليست صدى أجوف لخطاب سياسي ملوث بالدم والفساد.. حين نُسائل الحركة الإسلامية وعبر هذا المقال عن الكرامة، فإننا نُسائلها من موقع التاريخ والأخلاق معًا. إذ أنّ هذا التنظيم و الذي صاغ شعار “الكرامة” اليوم هو ذاته الذي صادر كرامة السودانيين بالأمس، عبر عقود من القمع والفساد والإفقار الممنهج حيث باع أعضاؤه أنفسهم للسلطة، وبدّلوا القيم التي بشّروا بها في خطابهم الديني، فغدت السلطة عندهم غاية في ذاتها، والدين وسيلة لتبريرها ومن أجل هذه السلطة فقد تخلوا عن أي مبدأ ودخلوا في دائرة تفكيك المعني الإنساني الداخلي لتصبح البشاعة هي عنوان لكل المراحل..لقد وصف الكاتب محمد عبيد في صحيفة النداء اليمنية طبيعة الإخوان المسلمين وصفًا دقيقًا حين قال:( الإخوان المسلمون لا يمكن فهمهم بميزان الخير والشر لأنهم أذكى من أن يقفوا في صف واحد، أنهم مثل ظل سياسي طويل يسبق الحاكم بخطوة ويتأخر عنه خطوتين، يمد يده لكل القوى ثم يرفع سبابته الي السماء حين يسأل عن النوايا.. ويؤكد محمد عبيد ان هذا التنظيم هو تنظيم برغماتي والبرغماتية عندهم تصلي وبكل أتجاه… اذن وضمن هذه الروح المراوغة يصعب أن نتحدث عن الكرامة كقيمة أصيلة في وعي الحركة الإسلامية. فالعقل الذي لا يؤمن بالثبات القيمي ولا بالصدق الأخلاقي، لا يمكن أن ينتج كرامة، لأن الكرامة تتأسس على مبدأ الصدق مع الذات ومع الآخرين، بينما يتأسس خطاب هذه الحركة على النفعيّة والتقية والقتل..الذين يسرقون قوت الشعب لا يحق لهم الحديث عن الكرامة..حرب بلا كرامةلقد قرنت الحركة الإسلامية هذه الحرب المدمرة بالكرامة ولهذا فان السؤال الذي يجب طرحه هنا هو: ماهي الكرامة التي يمكن أن تُستخرج من حربٍ تُفقد السودانيين كرامتهم كل يوم؟و أي معنى أخلاقي يمكن أن يقوم على جثث الجائعين والمشردين؟كيف يمكن لمن ترك شعبه يلتهم أوراق الشجر ويُقتل بالأوبئة، أن يتحدث عن “حرب الكرامة”؟ ففي حين يعيش المواطن في الداخل أهوال الجوع والانهيار، تتصارع قيادات الحركة الإسلامية و قيادات الجيش في بورتسودان حول المال والامتيازات والفنادق و تتسرب ثروات السودان عبر مطار المدينة، بينما يضيع الناس في شوارعها بين الوعود الكاذبة والفساد المكشوف… الإعلام ذاته الذي صنع صورة “حرب الكرامة” صار بعضه اليوم يفضح تناقضات قادتها، ويكشف أنهم مجرد أمراء حرب يتقاسمون الغنائم ومعها الوطن ( مثال علي ذلك تقارير الصحفية رشان أوشي عن فساد داخل الطيران المدني)..هذه القيادات التي هربت من الخرطوم خوفًا من البندقية، ثم جاءت تتحدث عن “الشرف” و”الثبات” فهي ليست سوى نموذج صارخ لفقدان المعنى ومعه الكرامة، فكيف يدعو من يهرب من الميدان ويدفع فقط الشباب إلى الموت دفاعًا عن الكرامة ان يتحدث عن هذه الكرامة؟ وكيف لمن فرّ إلى العواصم الآمنة أن يرسل أبناء الفقراء إلى المقابر تحت راية “الجهاد أو الكرامة ”؟ أنه تناقض العقل الفاسد.. واليوم فإن قيادات الجيش التي تقبع في بورتسودان والتي هي ربيبة الحركة الإسلامية فبدلا أن تنوجد في الميدان وتقود المعركة، الا أنها تتلقي اخبار الهزائم عبر الإتصال وهي قابعة في مساكنها، وبدلا ان يذهب البرهان الي دارفور ويقف علي ما حدث مؤخرا فقد ذهب الي الكلاكلة ليطوف بها وينتهي بشرب عصير الليمون في ( كشك للعصائر) للبحث عن شعبية مفقودة و ليقول في نفس الوقت ان الوضع مسيطر عليه، او في أقصي الحالات ان يذهب لزيارة النازحين في الدبة دون أن يمتلك حلولا لهؤلاء النازحين الذين لم يستطع حمايتهم سوي عبر الوعود بالنصر الذي لم يأتي ، وهو شعار آخر يشبه شعار الكرامة وهذه العقلية هي عقلية الفساد التي لا تشعر بأوجاع المواطن لكنها تتاجر بأوجاعه..ولهذا فان خلية بورتسودان العسكرية هي نتاج لعقل الحركة الإسلامية وقد أخذوا عنها خط الفساد ولهذا يخسرون المعارك… دلالات الكرامة تكمن في العدالة والحرية والمسؤولية الأخلاقية..العقل الفاسد لا ينتج كرامةالكرامة لا تُبنى على الفساد، ولا على الأكاذيب التي تُلبس ثوب الإيمان، فالعقل الذي يسرق ثروات البلاد، ويكدّس الأموال في بنوك الخارج، لا يمكن أن يزعم امتلاك الكرامة. والسلطة التي تقتل الناس باسم الوطن، ثم تهرب حين تتغير موازين القوة، لا تملك حق الحديث عن الشرف… لقد حوّلت الحركة الإسلامية الدين إلى سلّمٍ للسلطة، والسياسة إلى حقلٍ للثراء، والوطن إلى غنيمة، وفي ذلك انكشاف أخلاقي لا يمكن تجميله بخطاب عاطفي حول الكرامة.أين تُوجد الكرامة إذن؟الكرامة الحقيقية تُوجد في الحرية، والحرية هنا اقصد بها تحرر الإنسان من الشهوات والتجرد من الأنتماء للذات ومن أجل الآخرين، وعندما يفقد الأنسان هذه الأبعاد فأنه يُسلب من حريته وكذلك يُسلب من إنسانيته، وكذلك توجد هذه الكرامةفي العدالة، لأن لا كرامة مع الظلم،وتُوجد كذلك في الصدق، لأن الزيف لا يلد إلا الزيف. لقد فقدت الحركة الإسلامية حريتها حين انغمست في الفساد، وفقدت شرفها حين جعلت الدين وسيلة للسلطة، وفقدت إنسانيتها حين جعلت الموت طريقًا إلى “الكرامة” و يعكس ذلك ما يحدث في هذه الحرب المدمرة حيث يصبح الموت عنوانا للمرحلة والتشرد و النزوح صفة ملازمة للسودانيين، وما زالت الحركة الإسلامية ومن معها يرفعون شعار الكرامة وشعار ( بل بس)…إنها حركة تعيش اليوم مفارقة وجودية فهي ترفع شعار الكرامة بينما هي السبب في ضياعها عبر ممارساتها حين سطت علي الدولة.. اخيرا نقول ان الكرامة ليست رايةً للحرب، بل معيارًا للحقيقة، ومن يقود حربًا تُهين الإنسان لا يمكن أن يكون حاملًا لقيمة الكرامة، بل هو يبرر غيابه الأخلاقي تحت لافتةٍ كاذبة. وإذا كان من معنى لكرامةٍ في هذا الوطن الجريح، فهي تلك التي تُولد من وعي الشعب، لا من دعاية الفاسدين…كرامة الشعب السوداني تكمن في حريته وعدالته، لا في حربٍ تشنّها جماعة فقدت ضميرها وانسانيتها..The post تفكيك بنية العقل الفاسد : هل الذين نحتوا شعار “الكرامة” عبر الحرب يملكون كرامة؟ appeared first on صحيفة مداميك.