الرباعية الدولية وكل القوى المؤثرة في العالم تجتهد في مساعي إيقاف الحرب في السودان.. ولا تزال الحكومة السودانية تستعصم بجدار من الغموض.. خلف الغرف المغلقة توافق على مبادرة الرباعية، وتمضي في التفاوض غير المباشر على تفاصيل المرحلة الأولى في خارطة الطريق المقترحة.. وفي الوقت ذاته تبث خطابًا عامًا مربكًا يبعث بالرسائل المتناقضة في كل اتجاه.. فتخلق حالة من «عدم» اليقين لدى الجميع.لا تفسير لهذه الحالة سوى أن المشكلة الأساسية لم تعد الحرب في حد ذاتها، بل سلامة عقل الدولة السودانية المؤسسي وقدرتها على إدارة مصائر الشعب والبلاد بما يضمن تجنب الأخطاء وتحقيق أفضل النتائج.منذ البدايات الأولى لنذر المواجهة السياسية خلال الفترة الانتقالية، والتراشقات التي بدأت تطفو في الخطاب العام بين القوى السياسية المشاركة في الحكم – بالتحديد تحالف الحرية والتغيير من جهة، والمكون العسكري في مجلس السيادة من جهة أخرى – كان واضحًا غياب «الدولة» بقوامها المؤسسي من يوميات الصراع.كلمة من هذا الطرف تردّ عليها كلمة من الطرف الآخر.. تصريحات الأستاذ محمد الفكي سليمان في تلفزيون السودان (جلوسي مع العسكريين في مجلس السيادة يخصم من رصيدي السياسي)، ثم رد المكون العسكري عليها بالقول أولًا ثم بالفعل لاحقًا.. وتصريح المهندس خالد عمر يوسف، وزير شؤون مجلس الوزراء حينئذ (نحن جاهزون للمواجهة).. قائمة طويلة من التصريحات والتصريحات المضادة بين الطرفين انتهت بانقلاب 25 أكتوبر 2021.في كل هذا السيناريو كانت المعركة كلامية تحولت إلى إطاحة بالحكومة الانتقالية المدنية.. لم يظهر في ثناياها أي بُعد مؤسسي يدلل على وجود «الدولة» بمؤسساتها التي تتدخل وتفصل في التوترات على الأقل من باب «توازن السلطات» لضمان تماسك جسم الدولة.ثم بعد الانقلاب بدأت فترة من المواجهات الدموية في الشارع.. ولا عاصم لها من مؤسسات الدولة.. يوميات البلاد تُدار باجتماعات تُعقد في البيوت تارة، وأخرى في مقار البعثات الأجنبية أو بيوت الدبلوماسيين من الدول الصديقة والشقيقة.لا برلمان يتدخل.. ولا محكمة دستورية.. ولا يحزنون..الشعب السوداني كله يقف متفرجًا على معركة تُدار في الفضاء المباشر بالتصريحات، وتارة بالشتائم.إلى أن بدأت وساطات خارجية.. رباعية ثم ثلاثية.. تتشكل في بعض الفعاليات.. وثيقة تيسيرية لنقابة المحامين.. ثم الاتفاق الإطاري.. ويغيب تمامًا دور أي مؤسسة رسمية يُفترض أن تكون في قوام الدولة المؤسسي لتلعب دورها المحتوم.ثم بدأت عاصفة التصريحات النارية بين رئيس مجلس السيادة ونائبه.. من منابر «بيوت الأفراح والأتراح».. غابت مؤسسات الدولة أيضًا.. لا برلمان ولا محكمة دستورية ولا مجلس أحزاب ولا يحزنون.. ثم وُضعت الأيدي على الزناد وباتت البلاد كلها تتنفس بصعوبة خشية اندلاع الحريق.. ولا برلمان ولا مؤسسات للدولة.. التصريحات فردية من فوق المنابر الشعبية غير الرسمية..ثم انفجرت الأوضاع في صباح السبت 15 أبريل 2023..وكلما تحدث مسؤول ليروي ما حدث.. لا يجد إلا «قال وقيل».. لا مؤسسات ولا برلمان ولا يحزنون..الآن، وقد حدث كل ما حدث.. وأُريقت من الدماء ما يجعل السودان منافسًا لبلد المليون شهيد.. لا يظهر في سماء السودان ما يدلل على «المؤسسات» و«الدولة»..غموض في المواقف لا يفسّره إلا غياب الدولة.