يعد مترو موسكو أكثر من مجرد وسيلة نقل عام، إنه تحفة فنية ومعمارية وإنجاز هندسي يجسد عبقرية الروس في الجمع بين التقنية والجمال، بين الفعالية والرمز الوطني. فمنذ انطلاقه قبل تسعة عقود بخط واحد وثلاث عشرة محطة فقط، تحول مترو موسكو إلى شريان حياة العاصمة الروسية، ومفخرة وطنية ليس لها مثيل في العالم.يقول المهندسون الروس بفخر: "في أعماق موسكو ينبض وطننا. فكل محطة مترو ليست فقط مكانا للعبور، بل قطعة من روح روسيا نفسها". بدأت القصة مع الخط الأحمر “كيروف-فرونزينسكي” في عام 1935، وهو اليوم المعروف باسم خط سوكولنيتشيسكايا. في ذلك الوقت، لم يتخيل أحد أن هذا المشروع المتواضع سيصبح يوما ما واحدا من أكثر أنظمة المترو تطورا في العالم.اليوم، تضم شبكة المترو أكثر من 300 محطة قيد التشغيل أو البناء، ويتجاوز طولها مئات الكيلومترات، فيما تخطط السلطات لافتتاح 60 محطة جديدة بحلول عام 2035. هذه الوتيرة المذهلة تجعل من مترو موسكو الأسرع نموا في أوروبا، والأكثر اتساعا من حيث عدد الخطوط والمناطق التي يغطيها. وما يميز مترو موسكو عن أي مترو آخر في العالم هو الطابع الفني لكل محطة. فمنذ الحقبة السوفييتية وحتى اليوم، ينظر إلى المترو على أنه قصر تحت الأرض، مخصص للشعب الروسي.تتنوع تصاميم المحطات بين الرخام الفخم والثريات البرونزية والزخارف الفسيفسائية التي تحاكي الفن الروسي الكلاسيكي. وفي المقابل، جاءت المحطات الحديثة مثل "بيختينو" و"ناغاتينسكي زاتون" بتصاميم مستقبلية تحكي قصة المنطقة وتدمج الفن بالتكنولوجيا. من الطائرة المقلعة في "بيختينو" إلى الأسماك الفسيفسائية في "ناغاتينسكي زاتون"، كل محطة تروي قصة روسية من الإبداع والابتكار.ويصف المعماري سيرغي غلوبوكين المترو بأنه "متحف دائم تحت الأرض، تتبدل لوحاته مع كل محطة جديدة تفتتح".ويعد مترو موسكو نموذجا في الهندسة الحديثة والابتكار الروسي. تستخدم فيه أحدث التقنيات في حفر الأنفاق، مثل الأنفاق الثنائية المسار، ونظام الرصيفين الجانبيين الذي يزيد من سرعة الركوب والسلامة. يعمل اليوم أكثر من 11 ألف مهندس وعامل وفني في مشاريع بناء المترو، يمثلون أكثر من 100 مهنة مختلفة. وفي أوقات الذروة، كما في صيف 2025، تجاوز عدد العاملين 14 ألف شخص، في مشهد يعكس روح الانضباط والإصرار الروسي في تحقيق المشاريع العملاقة.ويعتبر أسطول مترو موسكو من الأكثر حداثة في العالم، إذ تتجدد القطارات بوتيرة تفوق مثيلاتها في أوروبا والولايات المتحدة. فمنذ عام 2010، ارتفعت نسبة العربات الحديثة من 13% إلى نحو 80%، ومن المتوقع أن تصل إلى أكثر من 90% بحلول عام 2030. وتتسلم موسكو حاليا دفعات من القطارات الروسية الجديدة "موسكو–2026"، التي تتميز بتقنيات فريدة بينها ممرات مفتوحة بين العربات، وأنظمة تكييف متطورة، وشحن للأجهزة الإلكترونية، وإضاءة تتغير وفق لون الخط، وأضواء أمامية ذكية تُخفت تلقائياً عند دخول المحطات.تقول إدارة المترو: "كل عربة هي مختبر متنقل للإبداع الروسي، وكل رحلة تجربة تكنولوجية متجددة".ولم يعد مترو موسكو مجرد وسيلة نقل، بل أصبح رمزا لهوية روسيا الحديثة، يجسد مزيجا نادرا من الانضباط السوفييتي والخيال المعماري المعاصر. إنه مدينة تحت الأرض تتنفس فنا وجمالا ونظاما، ودرس للعالم في كيفية تحويل النقل العام إلى فن قومي خالد.فبين أعمدته الرخامية وثرياته المضيئة ومساراته الممتدة بلا نهاية، يظهر المترو الروسي كرمز للعبقرية البشرية، وتجسيد حقيقي لعظمة موسكو العاصمة التي لا تنام فوق الأرض ولا تحتها.في كل محطة، وفي كل قطعة رخام أو لوحة فسيفساء، يظهر الإبداع الروسي في أبهى صوره. إن مترو موسكو ليس مجرد بنية تحتية، بل مرآة لروح روسيا العميقة — مزيج من الجمال، والدقة، والخيال الهندسي... إنه فخر وطني حقيقي، ومعجزة هندسية لا مثيل لها في العالم، تتحدث بلغة الفن والتكنولوجيا عن عظمة روسيا وقدرتها على بناء المستقبل تحت الأرض كما فوقها.المصدر: تاس