إبراهيم برسيفي مطلع عام ١٩٥٦، وقف السودان على مفترقٍ بين ماضٍ بريطانيٍّ ثقيل وحاضرٍ عربيٍّ واعد… فاختار أن يغلق باب الكومنولث خلفه دون أن يدري أنّ الأبواب كلها تؤدّي إلى الغرف نفسها ولكن بأسماءٍ مختلفة.فعل ذلك باسم الكرامة والسيادة، لكنه لم يسأل يومها إن كان الخروج من ظلّ الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس يعني الدخول في ظلالٍ أخرى أكثر قتامة.فالسودان، بعد أن نال استقلاله، اختار أن لا يلتحق بالكومنولث أصلًا، على خلاف الهند وماليزيا وكينيا، لأنه رأى في ذلك استمرارًا لوصاية استعمارية لا تُناسب دولة خرجت لتوّها من نير الحكم الثنائي. كان القرار تعبيرًا عن رغبة في “الانعتاق الكامل”، وإعلانًا بأن السيادة لا تُقاس بالتحالفات بل بالقدرة على الرفض.فقد أصدرت لندن بيانًا رسميًا حثّ السودانيين على “الانضمام للكومنولث” حتى بعد إعلان الاستقلال، في وقتٍ كانت فيه مصر — التي خضعت مثل السودان للنظام الاستعماري البريطاني — تسعى لاستعادة دورها في الإقليم العربي، لا بصفتها وصية على السودان بل شريكًا في تحالفات ما بعد الاستعمار…ورغم أن القاهرة كانت في ذيل المشهد العربي آنذاك، فإن روايات متعدّدة تشير إلى أنها شجّعت الخرطوم على الانضمام إلى جامعة الدول العربية، أملاً في إبقاء السودان ضمن الفضاء السياسي والثقافي العربي الناشئ.هذه الخلفية المعقّدة، التي شدّت السودان بين رغبة لندن في احتوائه ضمن الكومنولث ومساعي مصر لتوجيهه نحو العروبة، تُظهر أن القرار لم يكن بسيطًا كما يبدو، بل وليد تجاذبٍ دوليٍّ وإقليميٍّ كثيف، اتخذ في ظله السودان قراره الأول بوصفه كيانًا مستقلًا يجرّب صياغة مكانه في العالم.في ذلك الزمن، كانت القيادة السياسية — ممثلة في إسماعيل الأزهري وحكومة الاستقلال — تنظر إلى بريطانيا بعينٍ متعبة من طول الهيمنة، وإلى مصر بعينٍ حذرة من جيرةٍ لا تُؤتمن. ومن بين هذين الإرثين اختارت الخرطوم أن تبحث عن بيتٍ ثالث… بيتٍ يُشبه اللغة والدين والخيال الجمعي، فكانت جامعة الدول العربية التي انضم إليها السودان بعد أسبوعين فقط من استقلاله، في التاسع عشر من يناير من العام نفسه.لم يكن الانضمام إلى “الجامعة العربية” مجرد خطوة دبلوماسية، بل كان إعلان هوية. فالدولة الوليدة أرادت أن تقول إنها عربية، رغم أن جغرافيتها وحضارتها وأعراقها تفيض بأفريقيةٍ لا تخطئها العين…وبهذا القرار، تموضعت الخرطوم داخل الفضاء العربي الجديد الذي تشكّل بعد المدّ الناصري، فارتبط السودان قسرًا بوجدان الأمة العربية وصراعاتها الكبرى، من فلسطين إلى حرب أكتوبر، واستضاف مؤتمر الخرطوم عام ١٩٦٧ بشعار “اللاءات الثلاث” الذي أصبح لاحقًا أيقونة للخطاب العربي.لكن ما بدا يومها خيارًا للتحرّر، تحوّل مع الزمن إلى قيدٍ جديد. فقد وجد السودان نفسه أسيرًا لخطابٍ عربيٍّ لا يُشبهه تمامًا، ومُبعدًا عن امتداداته الإفريقية الطبيعية. انحسر التواصل مع دول القارة، بينما تعمّق الانتماء إلى شرقٍ عربيٍّ لم يمنحه سوى وعودٍ مكرورة… “الدعم العربي” الذي تحوّل إلى عباراتٍ في المؤتمرات، و”الأشقاء” الذين شاهدوا احتراقه ببرودٍ يشبه التواطؤ.سياسيًا، جعل هذا الانتماء السودان جزءًا من محورٍ متقلّب، يتحرك بإيقاع الأزمات العربية لا بإيقاع حاجاته الوطنية. فحين انشغل العرب بهزائمهم أو نفطهم، بقي السودان في الهامش، بلا حلفاء حقيقيين ولا مؤسساتٍ تنقذه من الانهيار. وحين حاولت أنظمة الحكم السودانية أن تستثمر في هذا الانتماء، كان العائد أقل من المتوقع.الجامعة العربية التي ساندته بالبيانات في كل حربٍ داخلية، لم تُقدّم يومًا ما يوقف نزيفه الحقيقي… وظلّت “جعجعة بلا طحين”.اقتصاديًا، فتحت الهوية العربية أبواب الخليج أمام الخرطوم. أموالٌ واستثماراتٌ ومشروعاتٌ زراعية دخلت البلاد من السعودية والإمارات والكويت. لكن تلك الاستثمارات لم تُغيّر البنية الريعية للاقتصاد السوداني، بل عمّقتها، إذ تحوّل السودان إلى أرضٍ خصبةٍ لزراعة الغذاء العربي لا لغذاء أبنائه. وبقيت ثرواته تُدار من الخارج كما كان زمن الاستعمار، لكن بلغةٍ أخرى وشعارٍ جديد.ومع أن الدعم العربي تجاوز حينها العشرين مليار دولار في بعض التقديرات، فإن أثره ظلّ هشًّا، لأن البنية التي تستقبل الدعم مخرومة في جوهرها.أما ثقافيًا، فقد بدا الانتماء إلى الجامعة العربية محاولة لإعادة صياغة الوعي الجمعي على صورةٍ “عربية” خالصة. صارت اللغة العربية هوية أكثر من كونها وسيلة، وتراجعت اللغات المحلية والرموز الإفريقية إلى الظل. التعليم والإعلام صارا يتحدثان بلسان العروبة السياسية، حتى كاد السودان يُنسى في مرآته القديمة كأمةٍ متعددة الأوجه. ومع الزمن، تحوّل الانتماء العربي إلى مصدر انقسامٍ داخلي، إذ رأى كثير من السودانيين أن هذا الخيار همّش ذواتهم، وأن السودان خسر ذاته الإفريقية مقابل هويةٍ لم تُنقذه من التمزّق ولا الفقر ولا الحرب.ومع ذلك، فإن مسألة الهوية في السودان ظلّت تُقدَّم — رسميًا وثقافيًا — في صورةٍ تبسيطية تُخفي تحتها صراعًا أعقد من مجرد انتماءٍ لغوي أو ديني. فتصوير الانتماء العربي كفعل تحرّر لم يكن سوى وجهٍ واحدٍ للمعادلة، إذ تجاهل البنية المتعددة التي يتكوّن منها الجسد السوداني: عربٌ وأفارقة، مسلمون ومسيحيون، قبائل نيلية وصحراوية، لغاتٌ وأصواتٌ وأديانٌ تتقاطع وتتنافر في آنٍ واحد.تشير دراسات وأبحاث أكاديمية إلى أن سياسات “التعريب” التي تلت الاستقلال لم تكن مشروع هوية بقدر ما كانت محاولة لإعادة قولبة الذات الوطنية على مقاس خطابٍ سياسيٍّ صاعدٍ آنذاك. هذه السياسات — في التعليم والإدارة والإعلام — لم تُنتج توحيدًا، بل كرّست الانقسام، إذ ولّدت إحساسًا متزايدًا بالتهميش لدى المجموعات غير العربية، خصوصًا في الجنوب والغرب، ودَفعت كثيرين إلى التشبث بهوياتهم الإفريقية بوصفها مقاومة رمزية للعروبة المفروضة.في هذا المعنى، تحوّل شعار “الوحدة الثقافية” إلى أداة لطمس التعدد، وأصبحت “الهوية العربية” مظلة تُخفي تحتها صراعاتٍ صامتة حول الاعتراف والتمثيل. فحين تعلن الدولة هويةً واحدة، فإنها لا تُوحّد بالضرورة، بل قد تُقصي وتُسكت أصواتًا أخرى كانت تبحث عن مكانها في السرد الوطني. وهكذا، فإن ما بدا خيارًا للتحرّر من الهيمنة الاستعمارية، انتهى إلى إعادة إنتاج أشكال جديدة من الخضوع، هذه المرة باسم الانتماء الثقافي لا باسم الإمبراطورية.ولعلّ السؤال الذي يجب طرحه الآن ليس: هل كان الانضمام إلى الجامعة العربية مكسبًا أم خسارة؟ بل: لأيّ هويةٍ أراد السودان أن ينتمي؟ فبين الكومنولث والجامعة العربية ظلّ يبحث عن معنى السيادة في مرآة الآخرين. لقد كسب شرعيةً رمزية في الفضاء العربي، لكنه خسر توازنه بين شمالٍ يتكلم العربية وجنوبٍ كان يغني باللغات النيلية، بين هويةٍ مُعلنة وأخرى مكبوتة، وبين انتماءٍ سياسي لا يسنده مشروع وطني حقيقي.من زاويةٍ أخرى، ربما كان البقاء خارج الكومنولث حريةً رمزية أكثر منه خسارة اقتصادية. فبريطانيا احتفظت بعلاقاتٍ تجارية ودبلوماسية قوية مع الخرطوم حتى بعد الاستقلال، وظلّت تراقب المشهد من بعيد. لكن السودان خسر في المقابل فرصة الانخراط في شبكاتٍ تعليمية وتكنولوجية متقدمة كان يمكن أن تمنحه أدواتٍ لبناء الدولة الحديثة… أدواتٍ لم تعوّضها الجامعة العربية التي ما تزال حتى اليوم تشتغل على “البيان” أكثر من الفعل.فالكومنولث لم يكن مجرد إرثٍ سياسي، بل فضاء تعاوني متعدد اللغات والثقافات، استطاعت دولٌ مثل الهند وماليزيا أن تحوّله إلى رافعة للتنمية، مستفيدة من برامج التعليم والتدريب والمنح التقنية التي وفّرها صندوق المعونة التابع له. ولو بقي السودان ضمن هذا الإطار، لكان من الممكن أن يوازن بين الاستقلال والسياسة الواقعية، وأن يخلق لنفسه موقعًا وسطًا بين العروبة والإفريقية، بين الحنين والهيمنة.وعند النظر بعمق إلى فكرة خروجه من الكومنولث، يمكن القول إنها كانت شجاعة سياسيًا، لكنها فقيرة استراتيجيًا. لقد عبّرت عن إرادة التحرر، لكنها حرمت السودان من شبكة دولية كانت قادرة على فتح أبواب التعليم، والتجارة، والاستثمار أمامه في مرحلةٍ كان فيها بأمسّ الحاجة إلى ذلك. إلا أن السودان اختار قطيعةً كاملة جعلته يفقد فرصة الانخراط في فضاءٍ متعددٍ يوازن بين الاستقلال والسياسة الواقعية.في تلك اللحظة، انتصر الوجدان على العقل الاستراتيجي، وتقدّم الحلم على البراغماتية التي تصنع التوازن بين المثال والمصلحة… فظلّ السودان وفيًا لذاكرته، لكنه غريبٌ عن خرائط المصالح التي صنعت العالم من حوله.The post بين الحنين والهيمنة… كيف أضاع السودان فرصته مع الكومنولث؟ appeared first on صحيفة مداميك.