سيرة لهمنغواي تعكس حياة جيل أميركي ضائع في باريس

Wait 5 sec.

 إبراهيم العريسعلى رغم أن عدد الكتب التي تحدثت عن أرنست همنغواي حتى من قبل رحيله بسنوات، وحتى قبل أن يكتمل المتن الأساس من أعماله الكبرى، كان أكبر مما تناول أي كاتب آخر من جيله، فإن صاحب “الشمس تشرق ثانية” و”العجوز والبحر” وغيرهما من أعظم الروايات الأميركية في القرن الـ20، كان عليه أن “ينتظر” أكثر من 30 سنة تلت رحيله انتحاراً في عام 1961، قبل أن تصدر تلك السيرة التي ما كان من شأنها إلا أن ترضيه هو الذي كان لا يرضيه معظم ما كتب عنه في حياته.ففي عام 1995 أصدر مواطنه جيمس ر. ميللو كتاباً يتجاوز عدد صفحاته الـ700 يحمل عنواناً في غاية البساطة هو “همنغواي”. غير أن بساطة العنوان أتت في الواقع متناقضة مع تركيبية الكتاب نفسه، بل حتى مع تجديدية كبيرة ميزته عن معظم الكتب التي صدرت عن همنغواي في أميركا، لتلتقي، كمياً ونوعياً، بما كتب عنه في فرنسا كما سنرى بعد سطور.ونعرف بالطبع أن فرنسا قد أحبت همنغواي كثيراً لأسباب يمكن وضع قائمة بها لكن ليس في حيز ضيق كحيزنا هنا. ومع ذلك في وسعنا أن نذكر من بين الأسباب كون الروائي الأميركي الكبير كان هو أيضاً صاحب كتاب “باريس حفل متنقل” الذي لا تتوقف دور النشر الفرنسية عن نشره وإعادة طبعه. بل نشرته مراراً وتكراراً خلال عام واحد، قبل عقد من الآن حين وجدت فيه نوعاً من رد خلاق على العمليات الإرهابية القاتلة التي طاولت العاصمة الفرنسية في ذلك الحين.جزء من ثلاثيةولعل علينا قبل أن نعود إلى هذا الكتاب، أن نذكر أن جزءاً كبيراً من أهميته، يرجع إلى كونه واحداً من ثلاثة كتب يماثله الآخران فيها، في الحجم، ليتلاقيا معه في الموضوع، بحيث شكلت الكتب الثلاثة معاً “ثلاثية” بديعة يتناول ثانيها وثالثها سيرتين مشابهتين لكل من جرترود شتاين، وسكوت فيتزجيرالد.وهنا وإذ أوردنا هذين الاسمين نتساءل: ترى هل أدرك القارئ العلاقة التي تجعل من هذه الكتب “ثلاثية”؟ وبكلمات أخرى، هل ترى القارئ تنبه للقاسم المشترك الرئيس بين الكتاب الأميركيين الثلاثة؟ لا شك أن الجواب هو نعم على السؤالين. فهؤلاء الكتاب الثلاثة، همنغواي وفيتزجيرالد وشتاين، كانوا أصدقاء بشكل أو بآخر، عاشوا في زمن واحد تقريباً، لكن أكثر من هذا، عاشوا ردحاً من حياتهم في فرنسا. وكان ذلك في نفس الحقبة التي كان فيها همنغواي يعيش ويكتب بدوره في مدينة النور، باريس.وهناك التقى الثلاثة ضمن إطار جالية كبيرة من مبدعين أميركيين وفرنسيين، شكلوا معاً ما سيعرف دائماً بالجيل الضائع. وهذا الأمر هو الذي يفسر لنا ما ذكرناه في مطلع هذا الكلام من حب الفرنسيين لهمنغواي، ومن ثم رضاهم عن كتاب ميللو المتناول سيرة هذا الكاتب الكبير، إلى درجة إسراعهم قبل سنوات بترجمته إلى الفرنسية ومن ثم اكتشافهم الثلاثية نفسها ونقلها إلى لغتهم. وذلك بالتحديد لأن كاتب السير الثلاث كان من الحصافة، والإنصاف بالنسبة إلى الفرنسيين، بحيث إنه أفرد لحياة الكتاب الثلاثة في فرنسا، ولانتمائهم المشترك للجيل الضائع صفحات بل فصولاً رائعة هي التي ميزت كتبه الثلاثة، كما أشرنا، لكن كتاب “همنغواي” بصورة خاصة.آلام بين الحربينفكتاب “همنغواي” الذي يحمل على أية حال عنواناً ثانوياً، تجاهله الناشر الفرنسي من دون أن يوضح سبب ذلك التجاهل، هو “حياة دون مستتبعات”، تمكن كاتبه، وبعدما خاض تجربة مشابهة وغنية مع سيرة كتبها لناثانييل هاوثورن، الأميركي الكبير الآخر صاحب “الحرف القرمزي” الرواية التي كان همنغواي يعدها مثله الأعلى الحقيقي، تمكن من أن يقدم لقارئه هنا، الصورة الأكثر وضوحاً وقوة في دنوها مما يمكن تصوره من صورة محملة بالألغاز لكاتب كان يرى دائماً أنه لن يموت إلا مقتولاً وتحديداً كضحية للشهرة المدمرة.مقهى دي دوم المفضل لدى همنغواي خلال أعوام إقامته في باريس (وسائل التواصل)​​​​​​​وللتوصل إلى فك طلاسم تلك الألغاز احتاج ميللو في الحقيقة إلى بحوث استغرقته سبع سنوات، أمضى الجزء الأكبر منها في دهاليز وقرب رفوف مكتبة جون كينيدي في مدينة بوسطن، معلناً أن غايته الوحيدة من ذلك إنما هي التسلل إلى جوانية “بابا أرنستو” وعالمه بالغ التعقيد. وهو أخذ على نفسه منذ البداية ألا يكون ذلك إلا من خلال الربط المحكم بين عدد كبير من أحداث معروفة أو أقل وضوحاً مرت بها حياة همنغواي، وحكايات ومواقف وأحداث تملأ فصول كتاباته، وبخاصة الروائية منها. لا سيما من بينها تلك التي بدل فيها وعدل وغير الأسماء والمواقف واخترع لها بدايات أو نهايات غير تلك التي كانت لها على أرض الواقع. والنتيجة أن سيرة همنغواي راحت تتبلور في كتاب ميللو أكثر من تبلورها في أي نص سابق يتناول حياة صاحب “باريس حفل متنقل” بالترابط مع حياته، لا سيما في حالة هذا النص الباريسي الأخير بالذات. ومن هنا أهمية الإلحاح من كاتب السيرة على التركيز على سنوات “بطله” الباريسية باعتبارها تلك المرحلة التي كشفت حتى لصاحب العلاقة نفسه، ذلك الترابط الحتمي بين حياته وكتاباته.خارج الدبلوماسية الكاذبةانطلاقا إذاً من هذا الكتاب، المتأخر على أية حال بالنسبة إلى بدايات الجيل الضائع، انطلق ميللو يترجم لحياة همنغواي، بالتوازي في جزأي الثلاثية الآخرين، لذلك الجيل. وتحديداً من خلال باريس، لكن أيضاً لعدد كبير من أميركيين وغير أميركيين، من أمثال دوس باسوس وجيمس جويس وعزرا باوند وهنري ماتيس وأناييس نين بل حتى هنري ميلر وصولاً حتى إلى بيكاسو… فهؤلاء جميعاً عاشوا حقبة ما بين الحربين في فرنسا كما عاشوا آلامها وأحلامها وخيباتها.غير أن كاتب السير يؤكد هنا أن همنغواي كان الأكثر التصاقاً بحياة الحي اللاتيني ومقاهي مونبارناس والتعبير عن الأجيال التي، ومن دون أن تدري غالباً، أحدثت تلك الثورة المدهشة وليس في الأدب الأميركي وحده.ففي النهاية يبدو واضحاً بالنسبة إلى ميللو أن همنغواي كان الأكثر صدقاً ونزقاً وميلاً إلى المغامرة وارتباطاً بالواقع. مع أنه ربما “كان من بين الجميع الشخصية الأكثر روائية”. أما بالنسبة إلى علاقته بباريس فكانت الأكثر عضوية، هو الذي رأى فيها صورة العالم كما ينبغي عليه أن يكون. العالم الذي كان يحس وربما فقط حين يكتب في باريس، حتى ولو لم يكتب عنها، أن في إمكانه أن يقول كما سيقول بورخيس من بعده: “إن أمنيتي القصوى هي أن أكتب ولو صفحة واحدة، ولو مقطعاً واحداً، ولو كتاباً بأسره كتابة تكون من أجل العالم كله”.The post سيرة لهمنغواي تعكس حياة جيل أميركي ضائع في باريس appeared first on صحيفة مداميك.