فاطمة أحمد إبراهيم: ماذا تبقى من سحرها ما بين الأجندة الثورية وأجندة النسوية الليبرالية الجديدة (٣/١)

Wait 5 sec.

ياسر عرمانفاطمة أحمد ابراهيم منتوج سوداني وطني خالص (home made) وهي إمرأة متفردة وذات بصمة خاصة وعميقة في حركة النساء الثورية الديمقراطية الحديثة في السودان، وان اردنا ان نلخص نضال النساء السودانيات المتنوع المشارب في الريف والمدن في شخص أمرأة واحدة فهي الأقرب إلى الاتفاق حولها وتنصيبها في قمة الهرم.حِرص فاطمة احمد إبراهيم على سودنة الحركة النسائية السودانية ذات الامتدادات الاممية التي انتمت اليها وقادتها كحرصها بان لا تترك ثوبها ينسدل من رأسها إلا واسرعت في التقاطه ووضعته تاجاً على رأسها، وهي صانعة ماهرة لبريق الحركة النسوية في بلادنا وأدخلتها في البيوت والأكواخ، كانت أمرأة ثورية ومناضلة وشجاعة ومكافحة ولا تخلو من ظلال التقليدية، كانت تمسك بالبرنامج السياسي للحركة النسوية أحياناً كثيرة فوق الاعتبارات الايدلوجية وربما كان ذلك سر نجاحها الجماهيري وقربها من الضمير الشعبي للنساء، كانت أمرأة عادية تشبه العديد من امهاتنا واخواتنا في كثير من أنحاء البلاد، ورغم صدامها للقيم البالية التي ضيقت الخناق على النساء ومطالبتها العنيدة بحقوقهن لكنها كانت اقرب لعالم الناس العاديين وكانت الأولى عند عتبة البرلمان وسبقت بذلك العديد من البلدان في افريقيا والعالم العربي وبعض الدول الاوربية.فاطمة كانت حازمة في أمرها ونضالها من أجل قضايا النساء وتشبه ملايين النساء العاديات في الأسواق وشارع الأربعين وحتى في شارع اكسفورد بلندن لم تغيرها سنوات طويلة من الشهرة والقيادة.في هذا المقال اود ان ارسم لوحة للأستاذة الجليلة فاطمة أحمد إبراهيم بعين من عيون جيلنا والنظر لتأثيرها في ظل التحولات العميقة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي شهدها مجتمعنا في الريف والمدن وتأكل بنية المجتمع المدني والحروب التي كادت ان تجفف مجرى الحركة النسوية والصمود الأسطوري للنساء السودانيات في ظل الحروب المتناسلة وتصاعد خطاب الكراهية والانحيازات الجغرافية والاثنية والتعقيدات التي شهدتها قضايا النساء وهي قضايا مركبة، وايضاً الدور الكبير للنساء في الثورة السودانية وخصوصاً ثورة ديسمبر، وضرورة الانتباه لدور النساء في ريف السودان، وما تبقى من سحر فاطمة أحمد إبراهيم بعد صعود اجندة النسوية اللبرالية الجديدة.تجاوز أثر فاطمة أحمد إبراهيم نطاق البنية الحديثة ليصل إلى البنية التقليدية في ريف السودان. ومن الشواهد الدالة على ذلك ما ذكره الناظر بابو نمر في حواره القيّم مع المفكر والكاتب الدكتور فرانسيس دينق، وهو الحوار الذي وثّقه الأخير في كتابه «مذكرات بابو نمر» ونشره بالعربية والإنجليزية، تمامًا كما فعل في كتابه عن والده الناظر دينق مجوك.ويتحدث بابو نمر في هذه المذكرات عن كيفية التوفيق بين قبيلتي الدينكا والمسيرية في مسألة الدية، خاصة مع اختلاف الثقافات بينهما؛ فالمسيرية متأثرين بالشريعة الإسلامية، يعتبرون دية الرجل ضعف دية المرأة، بينما يرى الدينكا أن دية المرأة أكبر من دية الرجل. ويذكر الناظر بابو نمر أنه توصّل مع الناظر دينق مجوك إلى اتفاق تتساوى فيه دية الرجل بالمرأة بين القبيلتين. ثم طلب بابو نمر أن يُبلَّغ هذا الاتفاق إلى فاطمة أحمد إبراهيم، قائلاً إنهم كانوا أول من ساوى بين المرأة والرجل.الفكر الثوري التقليدي الذي انتمت اليه فاطمة أحمد أبراهيم فكر اممي ثوري يرى انه لا يمكن انهاء التمييز ضد النساء إلا باقتلاع الأنظمة التي تنتج التمييز نفسه ويرى التمييز ضد النساء جزء لا يتجزأ من اطار عريض للاضطهاد يشمل المرأة والرجل والطبقات الفقيرة ويرى ان التمييز ضد النساء جزء من نظام متكامل قائم على الطبقة والكلونيالية والرأسمالية، وضرورة التغيير الهيكلي الشامل والثوري وان تحرير النساء مرتبط بتحرير كامل المجتمع.من جهة أخرى فان أجندة الليبرالية النسوية الجديدة والتي صعدت في العقود الأخيرة من حياة الاستاذة فاطمة أحمد إبراهيم لم تتطابق مع جوهر تفكيرها وقد حملتها المتغيرات السياسية بان تمضي سنواتها الاخيرة في العاصمة البريطانية مما أتاح لها ان تلتقي بالأجندة الليبرالية النسوية الجديدة وجهاً لوجه وتلامسها عن قرب.سعت الاجندة الجديدة لتحسين اوضاع النساء في ظل الأنظمة الرأسمالية القائمة عبر انتزاع الحقوق التدريجي والتمثيل المتكافئ والتمكين، وركزت الأجندة على الحقوق الفردية للنساء والمساواة في الأجور والعمل من داخل الأنظمة القائمة وتوفير مداخل لترفيع وتعزيز مكانة النساء والتركيز على الابداع النسوي في كافة المجالات والتقدم من خلال الوظائف وحرية المرأة في امتلاك جسدها وغيرها من أجندة اللبرالية النسوية الجديدة.الاستاذة فاطمة عاشت مجد وصعود الخطاب الثوري التقليدي وتصاعد مطالب النساء وارتفاع رأية اليسار كما عاشت قدر ليس بالقليل من حياتها في ظل تصاعد الاجندة النسوية اللبرالية الجديدة وانحسار اليسار، والحقيقة ان هنالك تداخل بين الأجندتين ولا يوجد فصل كامل على شاكلة الأبيض والأسود، وكانت فاطمة نفسها في مقدمة المناضلات في قضايا الإجر المتساوي للعمل المتساوي، كما انها قادت نضال ثوري وأخر اصلاحي قانوني مع اختلاف المحطة النهائية بين الاجندة الثورية واجندة اللبرالية النسوية الجديدة، سنتطرق لذلك لاحقاً في محاولة لتلمس ما تبقى من اثر فاطمة ورفيقاتها العظيمات بعد تصاعد أجندة اللبرالية النسوية الجديدة والموجة الرابعة، وطوبى لفاطمة فقد عرفتها عن قرب وتعلمت منها.في صيف ١٩٨٠ كنت طالباً في المرحلة الثانوية متحمساً لقضايا التغيير ولا أزال، وكنت قد التحقت بصفوف الحزب الشيوعي وقبلها قد تأثرت بشدة حينما اطّلعت على كتيب (مجازر الشجرة) ولم يتجاوز عمري حينها (١٥) عاماً وحينما بلغت (١٦) عاماً التحقت بالحزب وقد هزتني إعدامات ١٩ يوليو وتوقفت عند الشفيع أحمد الشيخ وفاطمة أحمد إبراهيم والآخرين. وبعدها علمت ان لديها مكتبة في شارع الأربعين تسمى مكتبة (مهيرة)، في ذلك العام وكان الوقت صيفاً قائظ والشمس تلهب الارض بأشعتها مثل نظام مايو أخذت طريقي نحو المواصلات ونزلت في محطة عابدين ودلني اول من سالته على مكتبة مهيرة ولحسن حظي كانت الاستاذة فاطمة متواجدة وترتب بعض الكتب، وبعد التحية عرفتها بنفسي وبعض الناس المهمين الذين تعرفهم والذين اعمل معهم في العمل السري فابتسمت وناولتني كوب من الماء ومنذ ذلك الوقت امتدّت علاقتي بها ومرت السنوات ورحلت فاطمة عن عالمنا وكنت حضوراً في مطار لندن اشيع جنازتها المتجهة نحو السودان وكانت جنازتها مثل كل حياة فاطمة لا تنتهي بهدؤ بل تجذب اليها كل من أحبها بعد طول غياب وسنوات أمضتها في العاصمة البريطانية. ومضيت خلف الجنازة في لندن بقلب ثقيل وتذكرت ذلك اليوم البعيد حينما سألتها عن ١٩ يوليو وعن ما جرى؟ ومرت في خاطري سحابة الحزن التي كانت على وجهها وحينما حكت لي…نواصل The post فاطمة أحمد إبراهيم: ماذا تبقى من سحرها ما بين الأجندة الثورية وأجندة النسوية الليبرالية الجديدة (٣/١) appeared first on صحيفة مداميك.