إبراهيم برسي“يُكتب هذا النص من الحافة التي يصفها عادل القصاص حين يتحدّث عن ‘الكتابة الواجفة’… لا من مسافة آمنة.”…الكتابة الواجفة ليست أسلوبًا، بل حالة… لحظة تُمسك فيها اللغة نبضها قبل أن تتقدّم خطوة أخرى نحو المعنى…هي كتابة تُولد من حافة القلب، حين يكون الكاتب أقرب إلى الارتعاش منه إلى البلاغة، وأقرب إلى الصمت منه إلى اكتمال الجملة.كتابةٌ لا تُخفي خوفها، بل تُشيع رجفته في النص… كأنّ كل كلمة تمشي عارية في العراء، وتعرف أنّ أيّ خطأ في الطريق قد يفضح هشاشتها…في الكتابة الواجفة، لا يتقدّم المعنى بثقة، بل بتردّدٍ نبيل.الجملة ليست مصقولة، لكنها مشدودة الأعصاب… كأنّها تُكتب تحت ضوءٍ متقطع، أو على سرير مستشفيات الحرب، أو في تلك الدقائق التي تسبق الاعتراف.هي كتابةٌ ينظر فيها الكاتب إلى الداخل بعينٍ مرتابة، ويستمع لصوتٍ يأتي من عمق الذاكرة لا من سطح الخطاب.كتابةٌ تُسائل نفسها وهي تتشكّل… وتعرف أنها، مهما بلغت فصاحتها، تبقى ابنة خوفٍ قديم لا اسم له.وفي هذا الوجيف – ذلك الارتجاف القصير الذي يسبق الفهم – تتحوّل اللغة إلى شيء يشبه النَفَس… هشّ، غير مطمئن، لكنه حيّ.تُقرأ الكتابة الواجفة كأثرٍ لجسد عاش التجربة، لا كعقلٍ يحللها.كأنها نصٌّ يعتذر عن نجاته، أو يبرر وجوده، أو يضع يده على جرحٍ يعرف أنّه لن يندمل… لكنه يكتب رغم ذلك، لأنه لا يملك خيارًا آخر.هذه الكتابة لا تدّعي الحكمة ولا الصلابة.إنها كتابة تمشي على أطراف أصابعها، كمن يخشى إيقاظ شيءٍ نائم في الأعماق… أو كمن يعبر جسرًا مهتزًا فوق ذاكرة مثقوبة.إنها لحظة التوتر حين يصبح المعنى احتمالًا، واللغة نجاة مؤقتة، والكتابة نفسها… فعل مقاومة ضد الانهيار.…وبينما نقترب من عمق الوجيف ذاته، تظهر النصوص التي كتبها أولئك الذين تعرّضوا لامتحان الوعي على حقيقته… امتحان أن تنظر في المرآة دون أن تملك رفاهية الكذب.فالكتابة الواجفة ليست مجازًا فقط، بل حضورًا حيًا في نصوص كتّاب عاشوا في مناطق الخطر: خطر الوعي، والهزيمة، واكتشاف الحقيقة قبل أن تكتمل.حين يكتب جان جينيه عن الفلسطينيين قائلًا:“أكتب كما لو أنني ألمس جسدًا جريحًا لا يجوز أن أضغط عليه.”فهو يقدّم تعريفًا شبه كامل للكتابة الواجفة.وحين يقول ميلان كونديرا:“إن أخطر لحظات الإنسان تلك التي تفقد فيها اللغة قدرتها على حمايته.”فهو يصف اللحظة التي يضطر فيها الكاتب إلى أن يلقي درعه جانبًا، ويقف بقلبه مباشرة أمام العالم.…وهنا، في اللحظة التي يتجلى فيها الامتحان الأخلاقي للوعي، يطلّ وجيفٌ لا يقلّ عمقًا: وجيف اليسار.فاليسار – بوصفه حلمًا مؤجّلًا أكثر منه مشروعًا سياسيًا – ظلّ تاريخيًا مساحة تُكتب فيها النصوص المرتجفة.يسار الستينيات، يسار الجامعات، يسار النقد الثقافي، يسار الرفاق الذين انكسروا ولم يتراجعوا…كلّها مناطق يتذكّرها الكاتب اليوم بوجيبٍ حزين:كيف ضاعت البوصلة؟كيف هُزم الحلم؟كيف أصبح اليسار ذاكرة أكثر منه مستقبلًا؟الكتابة اليسارية الواجفة تُشبه رجلًا يحدّق في إرثٍ أخلاقي يريد أن يحمله… لكنه يخشى ألا ينجو إذا حمله.وهنا يظهر وجيف آخر من المكان ذاته… وجيف اعترافي كتبه آخرون سقطت عنهم الأقنعة تمامًا.فأروى صالح – في “المبتسرون” – كتبت اليسار من حافته الجريحة، لا من شعاراته.كتبت خيبة جيلٍ كامل، كتبت الحلم حين تحوّل إلى عبء، والجسد حين صار شهادة على الأيديولوجيا لا ذراعًا لها.كانت جُملها تمشي متردّدة، مرتجفة، كأنها تخشى الحقيقة لكنها لا تستطيع الفكاك منها.وجيف أروى هو الوجيف الذي يعرف أن السؤال الأخلاقي أثقل من الشعارات… وأن الهزيمة الداخلية أصعب من الهزيمة السياسية.…ومن وجيف الوعي… يتسرّب وجيب آخر: وجيب الغربة.فليس من عبثٍ أن الغربة – في معناها السياسي والوجودي – هي الأرض التي تُزهر فيها الكتابة الواجفة…الغريب يكتب دائمًا من مكانٍ ناقص، من هوية معلّقة بين لغتين، ومن ذاكرة تسير خلفه كظلٍّ متردد.الغربة ليست بُعدًا جغرافيًا، وإنما ارتجافٌ دائم في المعنى:هل ما زلت أنت؟هل تغيّرت لغتك أم تغيّرت أنت؟هل تنتمي لأنك تعود… أم لأنك تكتب؟الغريب يعيش في النص أكثر مما يعيش في البيت.ينام في الجملة، ويستيقظ على كلمة، ويقيس مسافة الوطن بعدد الصفحات لا بعدد الكيلومترات…الغربة تُدخل الكاتب في حالة ارتعاش دائمة، لأن الهوية نفسها تصبح نصًا غير مكتمل… نصًا يبحث عن مؤلفه.…ومع هذا الارتجاف الذي تخلّفه الغربة، يطلّ الوجيف الأكثر توترًا: وجيف الحرب.في الحرب، تصبح الكتابة الواجفة قدرًا.فالحرب لا تُنتج خطابًا، بل تُنتج رجفة.وفي زمن الحرب لا يكتب المرء ليشرح، بل ليضمن ألّا يفقد آخر ما تبقى من صوته.الحرب تجعل الجملة قصيرة، لاهثة، مقطوعة النفس…كأنها تركض أمام طائرة مسيّرة أو خلف ركام منزل انهار توًّا.الحرب تُحوّل الكاتب إلى شاهدٍ خائف… وإلى ناجٍ مذنب… وإلى ساردٍ يشكّ في لغته نفسها.فاللغة في أزمنة الذبح لا تملك رفاهية البلاغة، بل تكتب كما يكتب الجريح:بيدٍ ترتعش… وقلبٍ يسبقها.…ومن الرجفة التي تولّدها الحرب، يتقدّم السؤال الأكثر هشاشة: سؤال الهوية.فالهوية في زمن الغربة والحرب معًا ليست ثابتًا، بل سؤالًا يختبر الكاتب نفسه كلما وضع نقطة في نهاية الجملة:هل أنا ابنُ الأرض التي خرجتُ منها… أم ابنُ اللغة التي صارت موطني الوحيد؟هل أحمل جرحًا… أم أكتب لأتأكد أن الجرح ما زال موجودًا؟الهوية في الكتابة الواجفة خيطٌ رفيع يُمسك الكاتب به كي لا يسقط… لكنه خيط قد ينقطع في أي لحظة.…ومن خيط السياسة، ينفتح آخر طبقات الوجيف: الجسد.فالجنسانية – ذلك القاع العميق من التجربة البشرية – لا تُكتب بلا رجفة.الجنسانية تُربك الكاتب لأنها تُعرّيه، ولأنها تفضح هشاشته الأولى: هشاشة الجسد.في النصوص التي تكتب الجنسانية بصدق، تظهر الرجفة بوضوح:ليس رجف الخوف، بل رجف الحقيقة حين تخرج من بين الضلوع.الجسد في الكتابة الواجفة ليس موضوعًا… بل ذاكرة.ليس شهوة… بل سؤال بقاء.وفي ثقافات تراقب الجسد كجريمة، تصبح الكتابة عنه فعلًا يرتجف… لكنه يضيء.وهذا ما جعله – لدى محمد شكري – وجيفًا كاملًا لا يُخفي نفسه.فالجنسانية عند شكري ليست لذة، بل نجاة؛ ليست رغبة، بل محاولة لإثبات أن الجسد ما زال موجودًا بعد حياةٍ تساقطت منها الكرامة والطفولة والطعام.كان يكتب الجسد كمن يكتب اعترافًا يخشى أن يسمعه أحد… وكمن يمسك جلده ليتأكد أنه لم يتحوّل إلى هواء.في وجيفه، يصبح الجسد ذاكرة فقرٍ وخوف، لا موضوعًا للرغبة، وكأن كل جملة لديه تخرج من ضلعٍ مكسوركل هذه الطبقات – الغربة، الحرب، الهوية، اليسار، الجنسانية – ليست عوالم منفصلة، بل وجوه متعددة لنفس الوجيف الذي يصنع الكاتب الواجف.فالغريب يحمل جرح الهوية، والمُحاصر يحمل جرح الوطن، واليساري يحمل جرح الحلم، والكاتب في الجنسانية يحمل جرح الجسد…والكل يكتب من منطقة رعشة واحدة.الكتابة الواجفة تعرف هذا جيدًا.تعرف أن كل نصٍّ حقيقي ليس إلا ارتجافة:لذكرى، لوجه، لمدينة، لجسد، لقصيدة، أو لحربٍ لم تعد الحرب وحدها… بل أصبحت لغة.الكتابة الواجفة هي الكتابة التي تُولد قبل أن يستقر الوعي، وفي اللحظة التي يتقاطع فيها الفقد بالصفحة، والخوف بالكلمة، والجرح بالمعنى.كتابةٌ منفتحة على خطرها… وعلى حقيقتها… وعلى تلك اللحظة التي يضع فيها الكاتب يده على صدره ليتأكد أن النبض ما زال هناك.هي كتابةٌ تقول للقارئ:“هذا نص نجَا… لكنه لم يهدأ.”The post تأملات في الكتابة الواجفة appeared first on صحيفة مداميك.