حظر مكالمات الواتساب في السودان، لماذا؟

Wait 5 sec.

*عمار قاسم حمودةفي سباق الأعمال، التكنولوجيا تفوز دائماً. ولكن لماذا حظر واتساب تحديدا؟ وكيف تعمل طريقته في المكالمات؟أي قرار بحظر خدمات المحادثات الصوتية والمرئية عبر التطبيقات، هو في تقديري محاولة لتعويض النقص الذي حصل في الإيرادات الضريبية وعائدات شركات الاتصالات، وهو صمم لصالح منظم الاتصالات وربما الشركات.ولماذا واتساب؟ لأنه التطبيق الأكثر شيوعا عند الجمهور السوداني، ولكنه حتما ليس التطبيق الوحيد الذي يمكن من اجراء المكالمات الصوتية والمرئية الى جانب خدمات التراسل الفوري للنصوص والصور والصوت ومقاطع الفيديو. بالطبع فإن الاستهلاك للبيانات يكون أكبر في حالة المكالمات الصوتية ثم المكالمات المرئية ومن بعدها ارسال مقاطع الفيديو والرسائل الصوتية بتفاوت احجامها، واقلها استهلاكا هو تراسل النصوص. مع انتشار تطبيق واتساب واعتماده على توفر حزمة بيانات معتبرة من الشركة مقدمة الخدمة او اتصال بأي شكل عبر الانترنت كمثال شبكات الواي فاي في المنازل والمكاتب والمحلات، أصبح هناك تحدي كبير بين المكالمات عبر التطبيق (استهلاك بيانات ربما في الغالب ليست من الشركة صاحبة رقم الشريحة) وبين المكالمات العادية التي تكون عبر شبكة الاتصالات والمدفوعة من الرصيد المالي او خصما على الدقائق المشتراة سلفا (Airtime). فرق التسعير بين خدمات البيانات والتي قد تكون مقدمة من جهة غير الشركة صاحبة الشريحة، وبين خدمات الاتصال العادي هو ما يدفع المستهلك للتفضيل واختيار الاتصال الأقل تكلفة. في حالة السودان وبعد نقصان عدد الجمهور الذي يستعمل خدمات الاتصالات داخل السودان مع خروج عدد كبير من ابراج ومحطات خدمة الاتصالات في الحرب الحالية، أصبح من الواضح وجود انخفاض كبير في حجم الإيرادات لشركات الاتصالات وللضرائب، مما دفع منظم الاتصالات والبريد باستصدار القرار الذي يأمل أن يزيد من العوائد. لكن، وبحسب السيناريوهات المتوقعة والتي لها سوابق في المنطقة عربيا وافريقيا فإن هناك شكوك كبيرة من جدوى القرار اقتصاديا، إذ ربما قاد إلى تناقص في استخدام الاتصالات في المجمل، مما يعني نتيجة عكسية في نهاية المطاف. وفي العادة يتم تطبيق القرارات غير مضمومة العوائد بحذر شديد، خصوصا مع حقيقة وجود منافس قوي خارج السيطرة، وهو الانترنت الفضائي كما في حال شركة ستارلنك.كيف يتم الحجب والتحكم؟يقوم الحظر تقنيا على حجب خاصية اجراء المكالمات الصوتية عبر تطبيق معين مثل واتساب وذلك إذا كان جهاز المتصل مكشوفا لشركة الاتصالات، ومكشوف معه ماهية التطبيق الذي يستخدم البيانات، بل وماهية الخدمة التي هي داخل ما يقدمه التطبيق. وبناء على هذه المعطيات يسمح او لا يسمح النظام باستمرار الخدمة، أو أحيانا لا يسمح اصلا بقيام الخدمة مع اظهار رسالة توضح أن هذه الخدمة محجوبة في هذا البلد. ولكن درج الجمهور على استخدام خدمات إخفاء مكان و هوية المتصل عبر الانترنت عن طريق استعمال ما يعرف شعبيا ب (الكاسر) وهي اصطلاح تسرب من الممارسات السابقة في التحايل على (كسر) التشفير الذي كان منتشرا في بعض قنوات التلفزيونات الفضائية التي كان ابرزها في نسخ كأس العالم لكرة القدم عند بيع احتكار البث لشركة معينة هي التي تتولى حماية نفسها بالتشفير، وقصر فك التشفير على الشرائح التي تبيعها بصورة قانونية (الكروت قديما، حاليا صار فقط ادخال كود معين) الأمر الذي دفع البعض الى حيل وطرق (تكسر) التشفير دون الشراء مباشر من الشركة صاحبة الامتياز، ومنها انتشرت برامج الكاسر. والكاسر في حالة الاحتياج لاستخدام خدمة محجوبة او تطبيق محظور هو حل يقوم على خلق قناع يخفي هوية ومكان مستخدم الانترنت ويستبدلها بعناوين أماكن أخرى لا تفرض حظرا ولا تحجب خدمة. وهي تعرف اختصارا ب VPN ، أي الشبكات الافتراضية الخاصة. خدمة VPN أو الكاسر يتم الحصول عليها إما بشراء تطبيق يقدمها وفق رسوم شهرية (سعر شهري مختلف، ولكن يمكن أن يكون في حوالي 10 دولارات شهريا – وهذا رقم كبير بالنسبة لمستهلك في السودان). كما يمكن الحصول على الخدمة لحظيا من بعض المواقع التي تقول ان الخدمة مجانا، ولكنها تجبرك على مشاهدة اعلان تجاري لجهة ما، ثم يمكنك بعدها التمتع بالخدمة لدقائق محددة. هذه الخدمة تبدو مجانية، ولكنها في حقيقة الأمر مكلفة للمستهلك لأنه سوف يستهلك حجم بيانات أكبر، وذلك للزيادة الناتجة من مشاهدة الإعلانات المفروضة عليه. الشركة التي تقدم الكاسر مجانا تكسب من إعلانات الشركات عندها، وتكسب أيضا لأنها تخلق طلبا على مواقعها عبر الإعلانات المفروضة على المستهلك، وتكسب ايضا كونها تتحكم في مسار حركة البيانات عبرها. هذا يشبه ما يحصل في ساحة مواقع التواصل الاجتماعي والتي ربما بجني البعض منها عوائد نتيجة لعدد الزيارات والسمع والتنزيل للمحتوى الموجود للشخص على منصة التواصل الاجتماعي (تيك توك مثال جيد، والي حد ما يوتيوب).كما نرى فالأمر في المجمل صراع تجاري بأدوات تقنية. لكن هذا لا يمنع من وجود أسباب أخرى لتخصيص واتساب بالحظر (حتى الان)، وهي أن مستخدم واتساب يتمتع بتشفير من الطرف الى الطرف (أي أن شركة الاتصالات نفسها لا تستطيع لا الرصد ولا الاستماع للمحادثات ولا حتى قراءة الرسائل). لا يخفى أن الرصد والتصنت والتتبع وإمكانية الحصول على كامل تفاصيل مراسلات شخص ومكانه متاحة في حال كان الشخص يستعمل نظام الاتصالات العادي. ولذلك فهي منجم معلومات للأنظمة القمعية التي لا تقيم وزنا لحماية الخصوصية أو امثالها من المفاهيم. عليه ومع توفر نفس خدمات الاتصال والتراسل عبر تطبيقات مثل واتساب، ولكن بتشفير كامل يحجب حتى عن شركة الاتصالات معرفتها لأي تفاصيل، ومع تزايد إمكانية الرصد والتتبع في الظروف الأمنية المعروفة، يصبح خيار استخدام تطبيقات مثل واتساب أكثر أمانا للمستخدم، وتفقد الشركات والأنظمة القمعية كل مناجم المعلومات عنه. ولذلك فإن سلوك طرق المحادثات والمراسلات عبر التطبيقات قد مثل تحديا ضخما لكثير من الدول والأنظمة التي كانت تعتمد في فرض رقابتها على بنية الاتصالات العادية. ارغام الناس او دفعهم باتجاه استعمال المكالمات العادية يزيد من مساحات المناجم المذكورة ويضيق بعض الشي او يجعل كلفة التخفي أعلى على المستخدم.هناك تجارب إقليمية لمسألة فرض رسوم على المكالمات التي تجري عبر التطبيقات وتستعمل البيانات كبديل للمكالمات العادية. وتختلف ردة الفعل الشعبية حسب طبيعة الأنظمة الحاكمة، ولكن في النهاية تفشل مثل هذه الممارسات في تحقيق عوائد معتبرة. ففي تجربة لبنان، التي أعلنت عنها الحكومة في أكتوبر 2019، قامت احتجاجات شعبية فور الإعلان وتراجعت الحكومة في ظرف ساعات عن نيتها لتطبيق رسم حكومي على المكالمات عبر التطبيقات. يذهب الكثيرون إلى أن تلك الواقعة كانت القشة التي قصمت ظهر الحكومة التي استقالت في نفس الشهر. خيار الاحتجاجات الشعبية غير وارد في حال السودان اليوم نظرا للحرب الدائرة وما تفرضه من واقع ليس فيه أي مساحة لاحتجاجات شعبية. هناك أيضا تجربة يوغندا في محاولة خلق مورد للدولة من خلال فرض رسوم على استعمال التطبيقات في يوليو 2018، ولكن حدثت نتائج عكسية مما جعل الحكومة تتراجع وتفرض ضريبة بديلة عامة على استخدام البيانات بدون تخصيص. في الامارات ومصر يوجد حظر ساري على بعض التطبيقات، ولكن عمليا يتم التحايل على الأمر عبر (الكاسر). السعودية كانت تفرض حظرا، ولكن توقف ذلك بعد السماح للخدمات بالعمل بصورة طبيعية منذ سبتمبر 2017.كيف تعمل مكالمات واتساب وأمثالها؟مكالمات الواتساب هي نوع من أنواع المكالمات التي تستعمل البيانات (الداتا)، وتسلك الطريقة المتبعة فيها سلوكا مختلفا عن سلوك المكالمات العادية والتي يستعمل فيها الرصيد المالي او رصيد دقائق المكالمات (Airtime) عند الدفع. وبدون الدخول في تفاصيل فنية كثيرة يمكن تشبيه الطريقتين وشرحهما بمشابهة كل طريقة في انجاز نقل كمية من المياه من طرف الى آخر. فعند استعمال طريقة المكالمات العادية والتي تعرف فنيا بالنقل بإنشاء دائرة (Circuit Switching) أي بإنشاء خطوط انابيب متصلة تربط بين المتصل والطرف الآخر ومن ثم يتم تدفق المياه من الطرفين (أي تسمع وتتكلم في نفس الوقت) وذلك بعد اكتمال انشاء الخط كاملا. هل تذكرون تكلفة الخدمة التي كانوا يسمونها تكاليف (فتح الخط) في المكالمات العالمية قديما والتي يتم حسابها قبل بداية المكالمة؟ هي هذه الإنشاءات التي ذكرتها. واعتقد أن كثيرون منا سمعوا الرد الآلي الذي يبدأ بعبارة (عفوا، الدوائر مشغولة حاليا، الرجاء …….). سادت تكنولوجيا الاتصالات بالطريقة التقليدية لفترات بدون منافس، وما تزال موجودة كما تعلمون، ولكن دخلت طريقة وتقنية جديدة للمحادثات. أنشئت الطريقة الجديدة في البدء لنقل بيانات لا تحتاج الى سرعة كبيرة وكانت في الغالب باتجاه واحد، أي ارسال فقط، ويمكن للمستقبل بعد أن تصله الرسالة أن يرد عليها بالإرسال من جانبه بذات الطريقة. عند استعمال هذه الطريقة في نقل البيانات والتي تعرف بالمناولة بالحزمة (Packet Switching)، وفي حال أردنا نقل مياه خزان فإننا لا نقوم بإنشاء خط انابيب، بل نقوم بتوزيع مياه الخزان على سيارات نقل صغيرة مع ترقيمها بالترتيب وارسالها الى عنوان واحد، وقد تصل السيارات المحملة بالمياه في أوقات مختلفة ولذلك لا تتم العملية الا بعد اكتمال عدد السيارات المرسلة وإعادة ترتبيها. عندها نقول ان المياه تم نقلها الي الطرف الاخر بنجاح (أبسط مثال لها هو وصول بريد إلكتروني من مرسله الى عنوانه المطلوب). وكما هو بديهي فإن سرعة اكتمال العملية هنا تعتمد على عاملين رئيسيين. أولهما، سرعة عمليات التجزئة والترقيم والشحن. وثانيهما، حالة ازدحام الطرق المؤدية إلى العنوان. مع تقدم التكنولوجيا في جانب التجزئة والشحن في زمن وجيز جدا (لا تدركه الحواس احيانا!)، ومع ازدياد سرعات السير في شوارع التكنولوجيا التي تمثلها الالياف الضوئية وأخواتها عبر الاثير مثل الاجيال الجديدة من أنواع الاتصالات عبر الهاتف 3G, 4G, 5G ….)، مع هذه الحقائق الجديدة أصبح النقل يتم بصورة تكاد تكون لحظية (in real time). بالوصول الى هذه النقطة من السرعة قام المهندسون باعتبار الصوت الصادر من المتكلم عبارة عن تسجيل (شريط من البيانات) صادر من (المتصل) يتم تقطيعه بسرعات فائقة وارساله بسرعات فائقة وإعادة تجميعه بسرعات فائقة ليصل إلى اذن المستقبِل دون أن يشعر بأي فارق زمني. وتحصل نفس العملية في الاتجاه العكسي عندما يرد المستقبِل على المتصل في عين ذات اللحظة. كل هذا يقوم على قاعدة بسيطة وهي انجاز التقطيع والارسال وإعادة التجميع في زمن اقل من الزمن الذي تحس فيه حاسة السمع البشري بالفرق الزمني. وبالطبع فالتكنولوجيا لم تتوقف وهي تهدينا المعالِجات التي تعمل بالنانوثانية وكسر من النانوثانية التي هي واحد على مليار من الثانية الواحدة (وهذا وضع عادي حاليا في معظم أجهزة الجوال الذكية الشائعة حاليا). والتكنولوجيا أيضا تهدينا سرعات الالياف الضوئية وما يقاربها من اخواتها عبر الأثير. هذه التكنولوجيا التي تستعمل وتستهلك حزم البيانات التي يشتريها المستهلك جعلت خدمة البيانات شيئا فشيئا تصبح أهم من خدمة الاتصال العادي، خصوصا مع وجود تطبيقات تقدم الاتصال الصوتي كخدمة بيانات، بل والاتصال المرئي أيضا، بل وألعاب الحاسوب عبر التي يتم التفاعل فيها بنقرات من اللاعبين الذين هم عادة في قارات مختلفة، فتأمل!ولأهمية البيانات وشمولها في تقديم الخدمات، فهي حتما ستبتلع خدمات الاتصال العادي. ولذلك تنبهت الشركات التي كانت تعتمد في الجزء الأكبر من مبيعاتها على الاتصالات العادية، وكذلك الدولة التي تجني ضرائب كثيرة من الاتصالات العادية لأهمية البيانات والمحاولة لجني مداخيل جديدة عبرها ولذلك لم تتفاجأ الشركات حتما ولا الحكومات، ولكن وجب التعامل بطريقة جديدة وتسعير خدمة البيانات بحيث لا تكون خصما على الايراد العام للشركات. هذه الأسعار في عالم اليوم لم يعد للدول ان تتحكم فيها تحكما مطلقا نظرا لظهور مقدمو خدمة عالميون ولا يعترفون بالحدود ويقدمون الخدمات من الأقمار الفضائية مباشرة للمستهلك. ومثال لها خدمات ستارلنك. وهنا قد نرى محاولات عبثية لفرض رسوم محلية على استعمال مثل هذه الخدمات. ولعل الكثيرون يتذكرون بداية دخول القنوات التلفزيونية الفضائية ومحاولة الكثير من الدول فرص رسوم على الأطباق اللاقطة (الدِّش) كما كان يعرف. وطبعا انتصرت التكنولوجيا. ربما نتكلم لاحقا عن المفهوم الجديد نسبيا (السيادة الرقمية)، والذي جاء لتنظيم الأعمال التي يتم إنجازها عبر الشبكات والتطبيقات والتي أصبحت معولمة حقا.*خبير في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.The post حظر مكالمات الواتساب في السودان، لماذا؟ appeared first on صحيفة مداميك.