شريف الشافعي تندرج المختارات الشعرية الصادرة حديثاً بالعربية للشاعرة الأميركية ذات الأصول الأفريقية لوسيل كلفتن (1936-2010) عن دار خطوط وظلال، بترجمة محمد السعيد، تحت عنوان “أشعر بحديقة في فمي”. وهو عنوان دال، بل مزدوج الدلالة والاتجاه والتمويه في توصيفه تجربة الشاعرة الثرية منذ بداياتها الأولى حتى آخر قصيدة كتبتها.من ناحية أولى، يستحضر العنوان تعبير لوسيل نفسها في أحد أسطرها الشعرية المؤثرة، ويحيل إلى خصوصية ذائقتها ورهافة لسانها واتساع حواسها ومداركها وقدرتها الكبيرة على الاستكناه والاستشعار بكل طاقات التنوع وإمكاناته المذهلة والمدهشة “أسماء الأشياء تزهر في فمي”. ومن ناحية ثانية، يبرز العنوان ذلك التشعب في النزهة المطولة التي يقطعها قارئ المختارات في حديقة كلمات لوسيل، صاحبة المجموعات الشعرية الغزيرة، ومنها “الأوقات الجيدة” و”أخبار جيدة عن الأرض” و”امرأة عادية”، و”كتاب النور” و”نعمة القوارب” وغيرها.تبدو الحديقة اختياراً أنسب للإشارة إلى عوالم لوسيل كلفتن الخصيبة، شاعرة الجمال والدهشة والبكارة والجرأة والعناد والتحدي، شاعرة البذور التي تطلق جذورها عميقاً في اتجاه الأصل والهوية، وتحرر أغصانها وأوراقها وثمارها في الوقت نفسه في كل اتجاه، وبكل الألوان والصيغ المتاحة، في الهواء الطلق، حيث لا تخشى في انفلاتها المجنون أحداً، ولو كان ملك الغابة التي نعيش فيها “تعلمت بعض الأشياء، مثل أن يمشي رجل مشية رجولية، ولا يتعثر، ولو في عرين أسد”.شذرات وقضاياالمختارات الشعرية (دار خطوط وظلال)قرابة 140 شذرة شعرية موجزة، متشابكة ومتلاحمة، مفعمة بالصور، يستقطرها المترجم محمد السعيد من محطات لوسيل كلفتن المشحونة بالأمل والألم والنضال والمقاومة والانتظام في تبني قضايا أصحاب البشرة السمراء والأقليات وحركات التحرر والإصلاح والدفاع عن حقوق المرأة والمناداة بالمساواة والعدل وإعلاء شأن المبادئ والأخلاقيات عموماً. كما تنفتح هذه الشذرات على صراعها المرير مع السرطان الشرس، الذي تسبب في وفاتها، والذي اقتبست منه كعهدها وهجاً شعرياً خلاقاً من خلال جعل الجسد ساحة للمعركة والصمود بكل الوسائل، بما فيها التهكم والسخرية “أول ما تخبط الكلمة المرعبة عينيك، تظن أنك سمعتها/ لكن ما تعرفه، أن الغرفة تتلون في قرمز، يمنة ويسرة/ والآخرون كلهم، دمى يراقبونك، على كراسيهم، من بيت الدمى”.لم تكن حياة لوسيل سهلة، ولكن شعرها يأتي دائماً سهلاً انسيابياً، مبسطاً في سيولته ولغته المكثفة، من غير علامات ترقيم وبلا زخرفة موسيقية ومن دون زينة بلاغية. وهو شعر حافل أيضاً بالتأملات العميقة التي تستبطن أغوار هذه الرؤى التي تطرحها الشاعرة، والموضوعات التي تخوض فيها وتكسبها أبعاداً إنسانية ووجودية وفلسفية وربما أسطورية، ومنها موضوعات الهوية، والجندر، والعرق، والتراث، والذاكرة، والأنوثة، والكفاح ضد العبودية والقهر والظلم والتمييز، وغيرها. وهي تطرق هذه الأبواب جميعاً حالمة بأن الغد المؤجل قد يحمل الأفضل أو غير المتوقع “الموتى سينهضون من جديد/ من يقول إن الرماد رماد؟/ لا تنظر صوب الشجر/ تشمم المطر/ تذكر أفريقيا/ كل شيء سيمضي، يمكن أن يجيء، أن يقوم/ حتى الموتى، سينهضون من جديد”.لا تتخلى لوسيل كلفتن بطبيعة الحال عن الخطوط العامة لرفيقاتها ورفاقها من ذوي البشرة السمراء الذين أخذوا على عاتقهم تفعيل أدب الزنوجة وتعزيزه، سعياً إلى ربط الأفارقة المغتربين حول العالم بقارتهم الأم، وهويتهم الواحدة، وأصولهم المشتركة، وتضميد جراحهم بعد سنوات طويلة من العبودية والاضطهاد والشتات، خصوصاً في الولايات المتحدة والعالم الغربي. تمضي لوسيل على هذا الدرب بامتياز، مستنهضة من خلال تلك الزنوجة قوة التماسك الاجتماعي، وقوة النضال ضد قوالب التهميش، وضد الهيمنة، وضد العنصرية بكل صورها.كما أن الشاعرة، الشغوفة بإضاءة النور في مساحات السواد، لا تنصرف أيضاً عن تقصي معاناة المرأة وضعفها وهشاشتها أمام الطغيان الذكوري، وأمام فقدانها حقوقها بفعل الرجعيات الموروثة والقوانين القاصرة العاجزة عن حمايتها. وتتمدد هذه النزعة لتبلغ استكشاف أعماق النساء السمراوات المحبطات في بيئات وحضارات تدعي المدنية والديمقراطية، بينما هي خاضعة لشريعة الغاب “يتراءى عالم النساء بأكمله، مشهداً من دم أحمر”. تمرد إنساني وجماليولعل أبرز ما يميز لوسيل أنها تنفذ من شعرية الاحتجاج إلى فضاء أرحب بكثير من حدود هذا المنظور الضيق. هي توسع نطاق نصوصها الشعرية الجريئة، لتصب عادةً في مصلحة التحرر الإنساني بصفة عامة، للنساء والذكور على السواء، وتعزيز الهوية والوعي والمسارات السلوكية السوية والقيم الروحانية لأبناء آدم وحواء جميعاً، في كل زمان ومكان، وليس في ظرف بعينه دون سواه.ويأتي ذلك التوجه، بالتوازي مع تمرد نصوصها الوامضة الحديثة على التقاليد الراسخة والمدارس الأدبية الجامدة، وتفكيكها الخطابات السائدة، وتواكبها فنياً وجمالياً مع أحدث موجات الشعر في أميركا والعالم. تلك هي لوسيل، المتصالحة مع ذاتها، كإنسانة وكشاعرة وكعضوة في مجتمع، والطامحة في الحالات كلها إلى تغيير جوهري يسهم في إصلاح الحياة والكتابة على السواء “يطن العالم حولنا كالنحل/ ما أحلانا في عظم جديد!”.تتدفق قصائد لوسيل كلفتن بمرونة، كلغتها اللينة، من مستودع الشخصي والمحلي والأرضي إلى الإنساني العام والعالمي والكوني. تنطلق من منصة إرثها الأفريقي – الأميركي، من دون أن تقيدها خيوط النوستالجيا في نقطة ثابتة. وهذا الأمر يزيد نصوصها المركزة حضوراً وانتشاراً في اللغات المتعددة، ومنها العربية التي شهدت أكثر من ترجمة لأعمالها ومختاراتها الشعرية خلال الفترة الوجيزة الماضية، كواحدة من الشاعرات النابهات في النصف الثاني من القرن الـ20، وكإحدى حلقات الوصل المهمة في خريطة الشعر الجديد، الذي يعالج الوجود البشري كله، وكملهمة لأجيال من الشعراء الذين استفادوا كثيراً من جسارتها في تعرية الذات وفضح الهموم الجماعية.وتبقى الإشارة إلى أمانة المترجم محمد السعيد في استحضار تجربة لوسيل كلفتن الشعرية والإنسانية بكل تقنياتها اللغوية والموسيقية والأسلوبية ومعالمها الجمالية وطقوسها النفسية، لتعكس الترجمة منظومة النص الأصلي وتراكيبه وخصائصه الأساسية. ولم يستعرض المترجم شيئاً من نشأة الشاعرة وسيرتها وحياتها، متفرغاً في عمله للتركيز على نقل سمات لوسيل الشعرية والتعبيرية المميزة، من حيث البساطة المعمقة، والاقتصاد الاحترافي، والتلاعب في الأسطر والأصوات، وشكل القصيدة وتنسيقها، وجرس الكلمات ومواضعها ومنطوقها ووقعها الصوتي ورنينها العاطفي، وانتقاء الترميز الدال والتأويل المناسب والمعنى الظاهر والكامن لكل مفردة، وما إلى ذلك تفاصيل عنى المترجم بالتعاطي معها بدقة واصطبار على امتداد صفحات الكتاب.https://www.independentarabia.com/node/628665/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%88%D8%B3%D9%8A%D9%84-%D9%83%D9%84%D9%81%D8%AA%D9%86-%D8%B4%D8%A7%D8%B9%D8%B1%D8%A9-%D8%AD%D8%B1%D9%83%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D8%B1The post شاعرة حركات التحرر الأميركية لوسيل كلفتن : “أشعر بحديقة في فمي” appeared first on صحيفة مداميك.