بروفيسور مكي مدني الشبليإلغاء مؤتمر واشنطن الذي طال انتظاره بشأن السودان ليس مجرد تعثّر دبلوماسي، بل هو أوضح تأكيد حتى الآن على نمط مقلق جديد في العلاقات الدولية: قدرة قوى إقليمية مثل مصر والإمارات على فرض “فيتو عكسي” يعطل قرارات قوى كبرى مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. فحين يتعلق الأمر بالسودان، لم تعد واشنطن أو لندن هما من ترسمان قواعد الاشتباك؛ بل باتت القاهرة وأبوظبي هما من تضعان الخطوط الحمراء.يمثل هذا التطور لحظة فاصلة في تطور الدبلوماسية الدولية تجاه السودان. فمع بروز مشروعين متنافسين لبناء الدولة — “أمل” (تحالف بورتسودان المتحالف مع الجيش السوداني)، و”تأسيس” (تحالف نيروبي الذي تقوده قوات الدعم السريع وحلفاؤها المدنيون) — بات الإطار التقليدي للتفاوض بين جنرالين متحاربين أمرًا تجاوزه الزمن. لكن بدلاً من مجاراة هذا الواقع الجديد، اختارت الولايات المتحدة وشركاؤها التراجع. ففشل المؤتمر ليس تأجيلاً تكتيكياً، بل تراجعاً استراتيجياً.مأزق واشنطن: بين وكلاء الحربالهدف الأصلي من مؤتمر واشنطن كان إعادة إطلاق المسار الدبلوماسي الدولي من خلال مسار موحد قادر على إنهاء الحرب وإطلاق عملية انتقال سياسي. لكن الواقع الميداني تجاوز هذا الطموح. فقد رسّخت “أمل” و”تأسيس” سيادتين متنافستين، لكل منهما سيطرة إقليمية، وادعاءات دستورية، ورعاة إقليميون.سعت واشنطن إلى التوازن بين هذه الحقائق دون منح الشرعية بشكل مبكر لأي طرف، حيث كانت قد أجّلت المؤتمر سابقاً بسبب اعتراضات داخلية على دعوة الجيش السوداني (SAF) مباشرة، خوفاً من منح فصيل عسكري متصل بالتيار الإسلامي العميق اعترافاً غير مستحق. وبدلاً من ذلك، حاولت واشنطن هندسة مسار مدني الطابع.لكن مصر رفضت ذلك بشدة، وأصرت على التعامل مع الجيش كممثل وحيد للدولة السودانية، محذرة من أن أي محاولة لتصعيد “تأسيس” أو تهميش الجيش ستُعتبر عملاً عدائياً. وفي المقابل، حذرت الإمارات من استبعاد حميدتي وحلفائه. ومارست الدولتان ضغطاً هادئاً لكنه متواصل على واشنطن ولندن للتخلي عن أي صيغة شاملة قد تهدد مصالح وكلائهما. وكما تراجعت لندن، سلكت واشنطن نفس المسار.الفيتو العكسي يتأكديؤكد فشل مؤتمر واشنطن (يوليو 2025)، كسابقه مؤتمر لندن (أبريل 2025) ما كان يشتبه به كثير من المراقبين: أن النفوذ الحقيقي على المسار الدبلوماسي السوداني لم يعد بيد الغرب، بل بيد الفاعلين الإقليميين الذين يمولون الحرب. فبينما تحتل مصر والإمارات مراتب متأخرة في تصنيفات القوى العالمية، فقد اكتسبتا نفوذاً مبالغاً فيه من خلال السيطرة على أدوات التأثير الميدانية. وهذا هو جوهر “الفيتو العكسي”: حين تُقيّد قوى إقليمية أصغر خيارات القوى العالمية الكبرى. وفي السودان، هذا يعني أن واشنطن ولندن لم تعودا قادرتين على فرض إطار للسلام أو حتى عقد منتدى دبلوماسي فاعل دون موافقة مسبقة من القاهرة وأبوظبي. الصورة قاسية: الولايات المتحدة لم تعد تقود، بل ترد الفعل. لم تعد تضع الأجندة، بل تدير ارتداداتها. وللسودانيين المدنيين والإقليميين الباحثين عن قيادة مبدئية، فإن الرسالة واضحة: حتى القوى العظمى يمكن تحييدها من قبل وكلاء أقوياء.“أمل” و”تأسيس”: أكثر من مجرد فصائللقد غيّر بروز تحالفي “أمل” و”تأسيس” خريطة السودان السياسية بشكل يصعب الرجعة منه. فـ”أمل”، العاملة من بورتسودان، تشكل الغطاء السياسي للجيش السوداني، وتحظى بدعم قوي من مصر وأجزاء من جامعة الدول العربية. وهو مشروع لاستمرارية الدولة، والحفاظ على البيروقراطية القديمة، وادعاء الشرعية القانونية، ونفي شرعية المسارات الأخرى.أما “تأسيس”، فتسعى إلى إعادة تأسيس الدولة، جامعة بين قوات الدعم السريع، والحركة الشعبية لتحرير السودان–شمال (الحلو)، وقوى أخرى، لتشكل مؤسسات سياسية ناشئة ورؤية دستورية علمانية ولا مركزية. ورغم حداثتها وجدل شرعيتها، فإنها تقدم بديلاً واضحاً لكل من الجيش والنظام الإسلامي القديم. وهذه ليست مجرد فرق تفاوض، إنها دول ناشئة في طور التشكّل. والرسالة التي أكدها مؤتمرا لندن وواشنطن أن أي عملية دولية تتجاهل مطالبها المؤسسية محكوم عليها بالفشل. ولعل ما يدعو للحسرة على ما آل إليه حال السودان أن الفرقاء المتقاتلين ليس لهم قِبَلٌ بهذه الرسالة المحبطة، بل كان وراؤها الفاعلان الإقليميان اللذين يدعمان وكلاءهما طرفي الحرب—مصر والإمارات.الخاسر الأكبر: المدنيون السودانيونأكبر الخاسرين من انهيار المؤتمر هو الشعب السوداني الذي يمثل الضحية الرئيسية لفشل مؤتمري لندن وواشنطن، وكذلك القوى المدنية السودانية، التي كانت تأمل أن تمنحها واشنطن دوراً مستقلاً في المعادلة. فطوال شهور، سعت تحالفات مثل “تقدم/صمود” و”ميثاق النساء السودانيات” إلى الاعتراف بها كأطراف سياسية مستقلة عن الكتلتين العسكريتين. لكن عودة الفيتو الإقليمي همّشهم مجدداً.ما القادم؟ ثلاثة سيناريوهاتصعود القاهرة: قد تحاول مصر الآن إعادة صياغة العملية بالكامل، عبر استضافة الجيش وحلفائه غير الإسلاميين في منتدى تقوده القاهرة، مع استبعاد “تأسيس” والمنصات المدنية المستقلة. وإذا بقيت واشنطن ولندن غائبتين، فقد يصبح هذا المسار هو المسار الدبلوماسي الفعلي، شريطة إخضاع الإسلاميين لحكم ثورة ديسمبر الشعبية فيهم.وساطات متعددة الأقطاب: قد يشجع الفراغ الحالي مبادرات موازية ومتعارضة مثل حوار ترعاه الإمارات في نيروبي، أو منتدى بقيادة الاتحاد الأفريقي والإيقاد في أديس أبابا، أو حتى حوار مدني تستضيفه قطر. لكن بدون إطار موحد، ستبقى هذه المسارات مجرد أصداء متكررة بلا تأثير.إعادة ضبط مدنية: الطريق الوحيد القابل للاستمرار قد يكون في بناء مسار سياسي مدني بحت، يستبعد المشروعين العسكريين من قيادة النقاش الدستوري. وسيتطلب ذلك تنسيقاً غير مسبوق بين الغرب ودول الخليج، وهو أمر لا يزال رهيناً بملابسات الفيتو العكسي.ما الذي يجب على واشنطن ولندن فعله بشكل مختلف؟• فرض إطار موحد: بدلاً من الرضوخ للفيتو الإقليمي، يجب على واشنطن ولندن تصميم مسار متعدد المستويات يفصل بين التفاوض الأمني (بمشاركة أمل وتأسيس) الذي يأتي أولاً، والمسار السياسي (بقيادة مدنية) الذي يبدأ لاحقاً.• ربط الاعتراف بالسلوك: لا يجب منح الشرعية تلقائياً، بل يجب ربطها بالحساسية الإنسانية، واحترام وقف إطلاق النار، والشفافية المالية، واحترام القيادة المدنية.• الضغط على القاهرة وأبوظبي: لم تعد الدبلوماسية الهادئة كافية، فعلى واشنطن ولندن توضيح أن التعطيل عن طريق الفيتو العكسي ستكون له تبعات: عقوبات، وتجميد للمساعدات الاقتصادية والعسكرية، وأضرار في السمعة الدولية.• تمكين المدنيين: حيث يجب التعامل مع القوى المدنية كمحاورين رئيسيين، وليس كملحقين. وأي مسار يُهمّشهم يجب اعتباره غير شرعي.من الشلل إلى الفعليمثل إلغاء مؤتمري لندن وواشنطن جرس إنذار مدوٍّ، فقد أظهر أن بنية الدبلوماسية الغربية تجاه السودان معطوبة، ليس لكثرة الأصوات، بل لأن أعلى الأصوات تمنع الجميع من الدخول. فقد أثبتت مصر والإمارات قدرتهما على تعطيل الفعل الدولي، فواشنطن رضخت أخيراً، كم رضخت لندن مسبقاً. لكن الاختبار الحقيقي لا يزال في الأفق. فعلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أن تقررا: إما مواصلة الدبلوماسية التفاعلية المنهكة، أو استعادة زمام المبادرة من خلال فرض عملية يقودها المدنيون. وإن فشلا، فلن تستمر الحرب فحسب، بل ستتحول إلى واقع دائم. والسودان لا يحتمل ذلك، ولا المجتمع الإقليمي والدولي.________________________________________*المدير التنفيذي – مركز الدراية للدراسات الاستراتيجيةThe post الفِيتُو العَكْسي يَعُودُ مُجَدَّداً: مصر والإمارات تُحْبِطَان اسْترَاتِيجِيَّات أمْرِيكَا وبرِيطَانْيَا بِشَأنِ السُودَان appeared first on صحيفة مداميك.