عمار الباقرتحدّثنا في المقال السابق عن مفهوم “الداخل” في إطار مقاربة وحدة الداخل في مواجهة الخارج. وفي هذا المقال، سنتناول مفهوم “الخارج” وكيفية التعاطي معه من وجهة نظر هذه المقاربة، المستندة إلى استقلالية مفهوم الدولة باعتبارها حارسة لمصالح جميع المكونات السكانية داخل الوطن، مقابل الحكومة التي تُمثّل إرادة المجموعة الحاكمة فقط.تجدر الإشارة إلى أن هذه المقاربة تُستخدم في عدد من نظريات الأمن القومي في دول مستقرة وقوية، حيث لا تتأثر سياساتها الخارجية بشكل كبير بتغيُّر الحكومات. وهو ما يعكس حالة من التوافق على ثوابت السياسة الخارجية بين مختلف الأطياف السياسية. وغالبًا ما تخضع صناعة القرار السياسي الخارجي لنوع من التفاوض والاتفاق بين الحكومة والمعارضة، مما يجعل هذه السياسات تعكس حالة من الإجماع الوطني.تتطلب هذه المقاربة قناعة عامة لدى جميع المكونات السكانية والمواطنين الأفراد بأن “أبعد مكون داخلي” من حيث الرؤية أو المواقف، هو في حقيقة الأمر أقرب للسودان من أقرب حليف أو صديق خارجي. وبالتالي، فإن أي حوار مع طرف خارجي، أياً كانت طبيعته، يجب أن يُبنى على ثوابت وتفاهمات متفق عليها بين جميع السودانيين.لذلك، ينبغي أن تتحوّل السياسة الخارجية السودانية من سياسة حكومية تعبّر عن توجّهات المجموعة الحاكمة، إلى قضية أمن قومي تشارك فيها كل مكونات المجتمع السوداني، سواء كانت في الحكم أو في المعارضة. وينطبق هذا المبدأ على أي اتصال ثنائي أو خارجي، سواء قامت به الحكومة أو أي طرف آخر.كما يتطلب الأمر التزام جميع الأطراف بالحفاظ على “منطقة عازلة” بين صراعات السياسة الداخلية والعلاقات الخارجية. وينطبق هذا الالتزام بشكل خاص على الحكومة، باعتبارها الطرف الأقوى في المعادلة، ويقع عليها العبء الأكبر في الحفاظ على هذا التوازن.وهنا، من الضروري توضيح أن مقاربة الداخل في مواجهة الخارج لا تعني العزلة أو الانكفاء على الذات كما هو الحال في إريتريا أو كوريا الشمالية، بل تعني التفاعل مع الخارج على أساس مصالح وطنية متفق عليها. وما لم يتم الاتفاق عليه داخليًا، يُستبعد من قائمة الملفات القابلة للنقاش أو التعاون الخارجي.ورغم أن هذا النهج قد يُقيّد التحركات الدبلوماسية والسياسية، إلا أنه – من منظور الأمن القومي – يضمن ثبات واستقرار السياسة الخارجية ويُغلق المنافذ أمام التدخل الخارجي عبر بعض الفاعلين المحليين.ولنضرب بعض الأمثلة على الأخطاء الكارثية التي ارتكبتها الدولة السودانية في هذا السياق، والتي ساهمت بشكل مباشر في اندلاع الحرب الحالية:في عام 2016، أغلق البشير السفارة الإيرانية وهرول إلى الإمارات عارضًا خدماته في الحرب ضد اليمن، ثم بعد عام تقريبًا، سافر إلى روسيا طالبًا الحماية من أمريكا. هذان الموقفان لم يكونا محل اتفاق لا داخل النظام السياسي، ولا حتى داخل حزبه (المؤتمر الوطني)، الذي كان له تاريخ طويل من التعاون مع إيران وعداء معلن تجاه روسيا.داخليًا، أدت هذه الخطوات إلى اتصالات دولية جانبية قام بها بعض عناصر الحزب الحاكم بهدف النأي بأنفسهم عن هذه القرارات المتخبطة.خارجيًا، أعطت هذه التحركات انطباعًا بضعف الدولة السودانية وتخبطها، مما فتح شهية العديد من الدول للتدخل في الشأن السوداني، كما شهدنا في بداية الثورة.عندما يرهن الحاكم أمن وكرامة بلاده مقابل أمنه الشخصي، فإنه بذلك يقطع شعرة معاوية مع الوطنيين الشرفاء، ويمنح الفاسدين ترخيصًا لفعل الشيء ذاته.يتكرر المشهد حينما قام البرهان بزيارة سرية إلى إسرائيل للقاء نتنياهو، ثم قام مع رئيس الحكومة الانتقالية بفرض الاتفاقيات الإبراهيمية، مقابل حفنة من القمح وأنظمة تجسس قُدّمت للدعم السريع والجيش للتجسس على بعضهم البعض وعلى الشعب.إن التفريط في سيادة البلاد بهذه الطريقة، وعلى حساب الإرادة الشعبية، يُعد انحرافًا خطيرًا في السياسة الخارجية السودانية، ويمثل نسخة سودانية من اتفاقية كامب ديفيد، وقد أسفر عن:1. انهيار ثوابت السياسة الخارجية السودانية؛ وتعدد مراكز اتخاذ القرار فيها2. فقدان ثزابت السياسة الخارجية السودانية والمرجعية الوطنية في إدارة ملفات الأمن والسيادة.هذه الفوضى خلقت بيئة مثالية لكل طامع ومتربص، ومكّنت أجهزة استخبارات معادية من العبث بالعلاقات بين مكونات الحكم والقوى السياسية، ما قادنا إلى الحرب الدائرة اليوم.بنهاية هذا المقال والمقالات التي سبقته نكون قد تناولنا بالوصف التحليلي نظرية الأمن القومي السودان وفي المقالات القادمة سوف نتطرق الي عدد من الافكار التي نساعد في بناء نظرية جديدة للأمن القومي قادرة علي التصدي للمخاطر التي تهدد البلاد اليومThe post في نقد وتفكيك نظرية الأمن القومي السوداني (5) appeared first on صحيفة مداميك.