شرحبيل احمد وعنه نحكي ( الحلقة الاخيرة)

Wait 5 sec.

عبدالله محمد عبدالله16- حين تفرّقت الفرقما من مشهدٍ أشد تعبيراً عن التغيّر الذى حاق بالساحة الفنية من تلك الدهشة التي قوبل بها شرحبيل احمد حين انبرى راقصاً على إيقاع أغنيته العتيقة (اللابس البمبي) مع نجله الموسيقار، شريف!فكيف تحول ذلك المشهد الذي كان مما اعتادته ساحاتُ الأفراح في الستينات إلى موضوع للفرجة و التندر؟ هناك من رأى في ذلك تجلياً لبعض ما فعلت سنوات حكم الإسلامويين بحياة أهل السودان و قيمهم.و لقد كان لتبدُّل الأحوال السياسية تأثيراً واضحاً في تجربة شرحبيل. فقد بدأ رحلته في وقتٍ ليبراليِّ المزاج، كان فيه الرقص متاحاً بل مسيطراً على أجواء الحفلات العامة و الخاصة. فجاء غناؤه آنذاك دعوةً للرقص، حتى كأن الكلمات لم تكن غير حاملٍ للأنغام أو رديفٍ لغوي للإيقاعات. يبدو هذا جلياً في (يا حلوة العينين) و (ارقص فرفش) و معظم أغانيه الأوّل، بل حتى نشيده لمايو ( قدم الخير عليك يا بلادنا) جاء خفيفاً كسائر أعماله.كانت الستينات و السبعينات ضاجةً بأصداء فرق الموسيقى الراقصة، التي تنامت عدداً و انتظم حضورها في الكازينوهات و الأندية الاجتماعية و الفنادق و دور المناسبات الخاصة و العامة. وفي 1981 رأى (اتحاد فرق الموسيقى الحديثة) النور، برئاسة شرحبيل أحمد. و بدا السعي لا يجاد مقرٍ للاتحاد. فقد كانت الآمال كباراً في ما قد تلعبه تلك الفرق في تشكيل موسيقى المستقبل.ثم حلّت الطامةُ الكبرى عندما أصدر النميري قوانين سبتمبر 1983 ، مدشناً الحقبة الكالحة التي ترسّخت بانقلاب يونيو 1989، الذي قاد لسيطرة مشروع الاسلامويين الذي استهدف حاضنات الحداثة و أعمدتها في المجتمعات السودانية. فسُطّرت اللوائح الكابحة و مُدّت الخطوط الحمراء المُباعدة بين الجنسين. راقب العسس الأزياء و الأجساد، و عاجلاً ما خبَت روحُ البهحة و تسمّرت الأقدام تحت المناضد المستديرة في صالات الأفراح! و هكذا، ساد الغناء القديم المكرور و تفرّقت الفرق.لكن شرحبيل الذي انتظم طالباً يدرُس الموسيقي في الثمانينات، استطاع بمرونته و سعة أفقه أن يبحر خلال المتغيرات التي أقعدت الكثيرين. مزاوجاً بين خبرته و موهبته و ما اكتسب من الدراسة الأكاديمية. فجاءت اعماله الأخيرة معبرة عن ذلك كله. و إذا ما تأملنا أغنية ( يا قلب ركّز) للشاغر التشكيلي الشاب عثمان الضي، و هي من ألحان شرحبيل الأخيرة ذات اللطف، كلاماً و لحناً، لأدركنا ان شرحبيل قد ضاعف من اهتمامه بكثافة الموسيقى و اعتنى بإدارة الحوار ببن مختلف الآلات، فأهدانا اغنيةً طازجةً رغم سطوع تيماتٍ لحنيةٍ من أغانٍ سابقات في قوامها البديع. أما حرص شرحبيل على ترسيخ لونيته في الأداء الصوتي فمما لا يخفى، حتى أمام جمهور نشأ على تقاليد الاستماع السلبي، لا الرقص.لا بد من القول بأن شرحبيل، ظل على وعي باختلاف ما ظلت تقدمه فرقته عن الجاز الأمريكي، فلم يضف كلمة (الجاز) إلى اسم فرقته التى حملت اسم ( شرحبيل احمد و فرقته). وذاك نهج سارت عليه معظم الفرق التي نشأت على غرار فرقته و شكلت ، على اختلاف حظوظها من النجاح، تلك التجربة التي يقف شرحبيل احمد على رأسها ريادةً و استمراريةً، بمثابرته و طاقاته الإبداعية الوفيرة، بصوته التينور الطيّع المنضبط المعبّر و ألحانه التي امتازت بالسلاسة و الحيوية و الجمال. و لم يكن لشرحبيل أن يحقق ما أنجز لولا جهد رفاقه من العازفين الذين ساندوه طوال مسيرته، والشعراء العباقرة الذين اختطوا نهجاً مميزاً في كتابة الأغنية المعاصرة.دعوني أختتم هذه الكتابة المتواضعة بالتحية لكل رواد الجاز السوداني، ( جاز الوصف أو لم يجُز .. فقد صار بعضاً من تاريخهم )، و أعلي راية الاعتزاز بهم جميعاً، من غادر منهم عالمنا و من لازال يجمّل فضاءنا بإبداعه، رغم سقم الحال الذي ما زلنا ننشد اعتداله. و لشرحبيل احمد و زكية ابو القاسم و لأسرتهما المبدعة و زملائهما أزجي ما طاب من الأمنيات.————————الصور: 1- شرحبيل، ناثر البهجة. 2-  التشكيلي الشاعر عثمان الضي.       The post شرحبيل احمد وعنه نحكي ( الحلقة الاخيرة) appeared first on صحيفة مداميك.