حمّور زيادةهدأت نسبياً المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. في الحرب الأهلية المستمرّة للعام الثالث لم تعد مسيّرات المليشيا تصيب العاصمة البديلة بورتسودان، وبدت السلطة العسكرية أكثر طمأنينة في تحرّكاتها في الخرطوم المهدمّة. زار قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، المدينة، وجاء رئيس الوزراء المعيّن كامل ادريس. تجوّلا بشكل آمن، ما بعث رسالةً عن استقرار الحالة الأمنية، من جهة الحرب ومسيّرات “الدعم السريع” دون غيرها. وكانت طائرة مسيّرة استهدفت احتفالاً حضره قائد الجيش في قاعدة عسكرية شرقي السودان في يوليو/ تموز 2024.كذلك، تراجعت هجمات الطيران العسكري على مواقع “الدعم السريع” في مدنٍ مثل نيالا والضعين. وعادت قيادات تحالف تأسيس (المكوّن من قوات الدعم السريع والحركة الشعبية شمال – جناح عبد العزيز الحلو، وبعض حركات مسلّحة وشخصيات سياسية) للحديث عن إعلان حكومة من داخل الجزء الغربي من السودان. ومع اكتناف الغموض مكان إعلان الحكومة الموازية، أو من يتولّاها حتى بداية هذا الأسبوع، إلا أن مصادر متطابقة بدت واثقةً من المضي في هذه الخطوة. ويحاول تحالف تأسيس بناء سردية لشرعية حكومته المتعثّرة، فيتكئ على اتهاماتٍ متكرّرة للسلطة العسكرية بالتمييز العرقي ضدّ أبناء إقليم دارفور بعد اندلاع الحرب، وحرمان عدد منهم من حقوق أساسية، والاشتباه الأمني، فيعد متحدّثو الحكومة التي لم تُكوَّن بعد بتقديم الخدمات للمواطنين، واستخراج أوراق هُويَّة رسمية.يأتي هذا الهدوء النسبي عقب تداول أنباء عن مقترح الوساطة الدولية (بإيعاز أميركي) بتجميد الوضع الحالي مدّة انتقالية لا تقل عن 36 شهراً. وهو هدوء لم يغيّر كثيراً من الحالة الإنسانية، ووضع الأمن الغذائي للمواطنين. يعني ذلك حدوث تقسيم إداري على أرض الواقع، في انتظار شرعنته بانفصال رسمي. وهو ما يبدو مريحاً للمجتمع الدولي، وهو كذلك (للأسف!) يبدو رغبة سودانيين كثيرين.لم تجعل الحروب الأهلية المتتالية منذ العام 1955 التعايش خياراً مطروحاً بقدر سهولة خيار التقسيم، وهو ما يبدو قتلاً للآخر بشكل أكثر حسماً، وإن بدا أقلَّ دموية. ورغم مرور 14 عاماً على تقسيم السودان بين دولتَين، شمالية وجنوبية، لم يجعل الانفصال أيَّ الدولتَين أكثر تجانساً أو سلاماً داخلياً. لكن لا يبدو خيار التعايش السلمي والمواطنة المتساوية جاذباً لكثيرين. وجعلت فظائع الحرب، ومدى التباين الثقافي والقطيعة المعرفية بين المتقاتلين، أسئلة الوحدة وجدواها حاضرةً بقوة في أيّ تصوّر لمستقبل البلاد التي تتفكّك بسرعة.لا تنتهي الحروب الأهلية بتوقّف العمليات العسكرية، ولا بتوقيع اتفاقيات سلام، ولا حتى تقاسم السلطة، ومنح مناصب هنا وهناك للمختلفين. تحتاج نهاية الحروب الأهلية إلى رغبة حقيقية في التعايش وإدراك لقيمة الوحدة، والتزام حقيقي بقيم الدولة الوطنية الحديثة. أمّا توقف العمليات الحربية، فلا يعني أن سلاماً يطرق الأبواب، ولم يقدّم الانفصال إلا مزيداً من الاقتتال الأهلي. وفق معطيات الحرب الحالية، تبدو رغبة سودانيين كثيرين في الوحدة كأنما أصيبت بالتعب.لكن ما يعلمه الوسطاء الدوليون جيّداً أن تقسيم السودان باتفاقية تجميد الوضع الحالي لن توقف إراقة الدماء في الجانبَين. ويبدو تحالف تأسيس الأكثر هشاشةً حتى هذه اللحظة، بينما تتراكم خلافات تحالف الجيش والمليشيات المقاتلة معه.في ظلّ هذه التعقيدات المتزايدة، تبدو أحلام السودانيين السابقة بالحكم المدني الديمقراطي بعيدة جدّاً، فالبلاد التي ظلّت دوماً تُحكَم بالبندقية، وتقتل نفسها بالبندقية، راهنت بعد ثورة سلمية على البندقية، وجعلها قائد الجيش شعاراً شعبياً إذ هتف “المجد للبندقية”. ورغم تكرار الوساطات الدولية لتعابير مثل “انتقال بقيادة مدنية”، أو “حكومة مدنية ذات مصداقية”، لا يبدو المجتمع الدولي راغباً (أو قادراً) على دعم هذا الاتجاه، فلم تعد المسألة استيلاءً عسكرياً على السلطة في مقابل رغبة مدنية في الديمقراطية، إنما فوضى من المليشيات المسلّحة والتنظيمات القَبلية، لا يمكن تلفيق حكم مدني لها باتفاق سياسي.كأنها مأساة إغريقية تدفع السودان نحو مزيد من الانفصال، ومزيد من الاقتتال الأهلي. لكن رغم كلّ شيء، فإن هدوء وتيرة العمليات الحربية يعني شيئاً من الأمان لملايين السودانيين، حتى لو كان ذلك هو الهدوء الذي يسبق الانفصال.The post الهدوء الذي يسبق الانفصال appeared first on صحيفة مداميك.