“تأسيس” لإعادة التأسيس: في المسكوت عنه والمتخَفِّي، ما لم يُفصِح عنه إعلان حكومة “تأسيس”

Wait 5 sec.

صلاح الزينيُنسَب إلى ماركس قوله: “التاريخ يتقدم من جانبه المتعفن”. من غير أن يعني انحلال ما تعفَّنَ تقدماً وتغايراً. فقد يتقدم أحد مستويات بِنيَة الخطاب ويزيح مركز الخطاب إلى مجرد مستوىً في بِنيَة الخطاب من غير الخروج عن بِنيَة ومشروع الخطاب السياسي والفكري. بقول آخر، يتوفّر الخطاب على آليات ومهارات خطابية تسمح بتعدد مراكز بِنيَتِهِ مما يسمح بتبادل مواقع بِنيَة مركز الخطاب بين المستويات المختلفة والمتعددة التي تُكوِّن بِنيَة الخطاب. ذلك يسمح بقدر من السيولة الخطابية، أحد أهمّ التكتيكات الخطابية، لانتقال الخطاب من البنية ذات المركز الواحد إلى بِنيَةٍ ذات مراكزٍ متعددة.ذكرنا في عدة كتابات ومقاربات سابقة عن خطاب حرب أبريل 2023 وقلنا إنّ هذه الحرب ليست حرباً بين رأسَيْ الإله “جانيوس” الجنجويدي والفلولي بل حربُ هذين الرأسين ضد شعارات الحرية والسلام والعدالة التي نادت بها انتفاضة ديسمبر 2018. وقد كانت هذه الرؤية شِراكاً سقطت فيها معظم الكتابات التي قاربت سؤال حرب أبريل.وكما أبِنّا أعلاه، حول السيولة الخطابية لِبِنية الخطاب كتكتيك خطابي، فقد أفضَت هزيمة الجنجويد وإخراجهم من المواقع التي سيطروا عليها لِما يقارب عامين، أنْ انكفوا وانسحبوا إلى مناطق دار فور وكردفان، أي مناطق ضحاياهم طيلة ما يقارب ربع قرن من الزمان عندما استأجرَتْهم حكومة “البشير” وأوكلت لهم محاربة حركات الهامش المسلحة في تلك الأصقاع وما تبع ذلك من خرابٍ وتنزيحٍ وإحلالٍ لأهالي دار فور لما يزيد عن عقدين من الزمان وحتى وقته.وتلك كانت لحظة تاريخية فاصلة بها انزاح الرأس الجنجويدي، كصِنوٍ للرأس الفلولي، من موقعِهِ في بِنيَةِ الخطاب العربسلامي كأحد مستوياته إلى الاستقلال عن بِنيَة الخطاب. بمعنىً آخر، الانتقال من موقِعِهِ الطرَفي في بِنيَة الخطاب العربسلامي كبندقيةٍ بعقدِ إيجارٍ إلى تأسيس بِنيَةٍ موازية مفخَّخَةٍ باستحالة الخروج عن مشروع ذات الخطاب، الخطاب العربسلامي: انفصال أحد مستويات بِنيَة الخطاب عن الخطاب من غير الخروج عن مشروع الخطاب هو هو انتقال الخطاب من البِنيَة ذات المركز الواحد إلى البِنيَة ذات المراكز المتعددة.والخطاب، أيُّ خطاب، دوما يوجد جوار خطابات أخرى سابقة أو ماثلة أو لاحقة لاستحالة آلعيش منفرداً لطبيعة سيرورته الخطابية. فالخطاب بطبيعته مُتنازَعٌ ما بين التعدد والهيمنة على المتعدد مما أَورثَ بِنيتَهُ مهارةً في التكتيكات الخطابيّة التي تسمح له بقدر من القرابة الخطابية لإنجاز مهامه. كما له، أيضاً، ذاكرة وجغرافيا.في تراجُعِهِ بعد هزيمتِهِ وطردِهِ من المناطق التي سيطر عليها قرابة السنتين، تراجع الرأس الجنجويدي لخطاب حرب أبريل إلى أراضٍ وجغرافية لا توفر له لا المكان ولا الذاكرة لاستضافةٍ بها يؤسس فضاءً جغرافيَّاً يسمح له بالعمل والتمدد. فالجغرافيا، براري دار فور، ذات الجغرافية ملفوفةٌ في ذات الذاكرة التي ما نَسيت يوماً، ولن تنسى، تهجير وتنزيح أهالي دار فور من جغرافيات لهم، بحواكيرَ وسُبُلِ وثقافةِ معاشٍ، إلى الإقامة في معسكرات نزوح، زمزم والشواك وكَلمة، لما يقارب ربع قرن من الزمان بكل ما يعنيه ذلك من تبعاتٍ أقلّها نشوءُ جيلٍ مُنبَتٍ عما سبقه من أجيالٍ وذاكرة: تتغير الجغرافيا ولا تتبدل الذاكرة أو تنسى إذ الخروج عن جغرافيّة الخطاب لا يتبعه الخروج عن ذاكرة الخطاب.بهزيمته التي أتاحت له صعوده من مستوىً طرَفي في بنية الخطاب العربسلامي التي يجسّد فيها أقصى انحطاط سيرورات ذاك المشروع وتمظهراته، أقول ما كان لرأس “جانيوس” الجنجويدي في خروجه التكتيكي الأول وتوازيه، فيما يبدو مفارقةً وانفكاكاً، لرأس “جانيوس” الآخر، الفلولي، إلا أنْ يشرع في تأسيس فضائه الخطابي واستحداث وبناء تحالفاتٍ سياسية بأطروحاتٍ تُسوِّقُهُ كمشروعٍ سياسيٍّ مناهِضٍ لمشروع صِنوِهِ الآخر، الفلولي.ولاستحالة خروجه عن بنية خطاب حرب أبريل 2023، الخطاب العربسلامي، ومشروعِهِ السياسي، بنيةً ومفهوماً ومعنىً، فقد لجأ إلى حيلٍ خطابيةٍ تسمح بها سيولة طبيعة الخطاب إلى إحلال المواثيق والاتفاقات محلَّ سياسة الخطاب باختزال الممارسة والأطروحة السياسية إلى تمارين في عِلم الكتابة السياسية ومصطلحاتها وقاموسها. فكان إعلان “تأسيس” ذات تغريبة “نَيروبية” في فبراير 2025 لتُتْبع بإعلان حكومة “تأسيس” الموازية في يوليو من ذات العام. هكذا أُعلنت حكومة “تأسيس” وعلى رأسها الجنجويدي “حميدتي” الجالس على يمين أو شمال رأس “جانيوس” ليَنطِق ويبارِك ذاك الإله ديمومة واستمرارية مشروع خطاب حرب أبريل 2923 برأسَيْهِ الجنجويدي والفلولي: يُموَّه الخطاب وتُفصِحُ الآلهة!!!بخروجه، كأحد مستويات بِنيَة خطاب الحرب، الخطاب العربسلامي، ورأسها الفلولي الآخر، يكون الرآس الجنجويدي قد أَسَّسَ لترميمِ ذاتِ الخطاب ودرء كبوَتِهِ الخطابية بتأسيس “تأسيس” وإعلان حكومتها المَطليَّة بأرتالٍ من المواثيق والوعود وتبنِّي قضية الهامش وشعوبِهِ. ذات الهامش وجغرافياه وذاكرته ومراياه المحشوّة جوفها بذات الوجه الجنجويدي والذي أصبح “أميراً” ورئيساً لحكومة السلام باسم “حميدتي” وإنْ شئت “حمايتي” بما يملكه من قوة عسكرية وموارد مالية وراعٍ إقليمي.يقتضي التحليل والنظر في مقاربة الخطاب، خطاب حرب أبريل 2023 العربسلامي، برأسَيْهِ الجنجويدي والفلولي، عندما يختلف الخطاب ليس كبِنيَةٍ أو تمثيل وإنما إعادة تموقع مستويات الخطاب وروافِعِهِ السياسية والفكرية داخل بنية ذات الخطاب.بذلك تكون حكومة “تأسيس” الموازية مجرد وحدةٍ هيكليةٍ وسياسية انزلقت من الجيب الخلفي لخطاب حرب أبريل العربسلامي ذي الرأسين، الجنجويدي وفلولي، وإعادة غسلٍ وتدويرٍ سياسيٍّ للرأس الجنجويدي الذي لا يتوفر له ذلك فيما كانت ذات يوم مناطق سيطرته طيلة قرابة عامين من الحرب. إنها حكومةٌ لا تعدو أنْ تكون غيرَ رافعةٍ لإعادة تأسيس وترميم ذاتِ الخطاب ورتقِ فتوقاتِهِ وإعادة إلباسِهِ نعالاً جديدة تُعينُهُ على الخطو إنْ وهنت قدماه.تَرافقَ إعلان حكومة “تأسيس” الموازية مع المبادرة الأمريكية بدعوتها للرباعية ( مصر والإمارات والسعودية والولايات المتحدة) في ذات الشهر، التاسع والعشرون من يوليو، لاجتماع يناقش قضية الحرب في السودان. لم تتم دعوة طرفي الحرب، الجنجويدي والفلولي، لحضور الاجتماع.وقد قارَبْتُ ذلك، لِمَن يود المطالعة، وأوجَزتُهُ في مقالٍ بعنوان:“جنيف تُنجِب واشنطون: تناسل أمكنة ميلاد الخطاب، ذات المركب والأوديسة والحمولة” مداميك/يوليو 25.والذي قلتُ فيه الآتي فيما يخص عدم دعوة رأسَيْ خطاب حرب أبريل 2023:“ضرورة إعادة تعريف مفردتي الحضور و الغياب كدالتين لا ينفيان بعضهما البعض: غيابٌ يحضر وحضورٌ يغيب”!!The post “تأسيس” لإعادة التأسيس: في المسكوت عنه والمتخَفِّي، ما لم يُفصِح عنه إعلان حكومة “تأسيس” appeared first on صحيفة مداميك.