ترجمة د. عصام محجوبعندما أوصلتني أمّي إلى منزل جدّي وجدّتي لقضاء أسبوعين من الصيف، ظننتُ أنّني سأموت من الملل. لكنّني لَمْ أتوقّع أنْ أموت من قذارة تراكم العرق والتراب على جسمي.في أول مساء، بعد أن ركضتُ في البستان طوال اليوم مع أبناء وبنات عمّي الصغار، عُدْتُ إلى المنزل متعرقًة ومغبّرًة، مُستعِدًة لأخذِ حمام طويل ساخِن.“أين الحمام؟” سألتُ وأنا أتجوّل في المنزل ذي الثلاث غُرف.نظرت إليّ جدّتي وضحِكت. “الحمام في الفناء، بجوار المرحاض. لكنكِ تريدين أنْ تغتسِلي، أليس كذلك؟”.أومأت برأسي، غير مُدْرِكة لماذا بدا سؤالها لغزًا.“تعالي معي إلى المطبخ الصيفي”، قالت، وتبعتها إلى غرفة صغيرة، في مُنتصفها طشت دائري كبير من الزِنك، وفي احد الأركان موقِد مبني من الطين والطوب يعمل بالحطب.قالت وهي تشير إلى الطشت الذي بدا وكأنه من العصور الوسطى: “هذا حمامِك”. سألتُها، آمِلة أنْ تكون مِزحة من الأجداد: “أنتِ تمزحين، أليس كذلك؟ أين الدُش؟ أو حتّى حوض استحمام مناسب؟”.مرَّرَت جدّتي يدها على جبينها وتنهّدت ثُمّ قالت: “يا إلهي، الماء الساخِن لا يأتي من تلقاء نفسه في هذا المنزل. عليكِ أن تحصلي عليه”.جلستُ ونظرتُ إليها كما لو كانت تتحدّث الصينية.تُسخّني الماء؟ ماذا تقصُد بتسخينه؟وبصبر مُعلّمة بدأت تقول، “أول شيء، هو سحب الماء من البئر بدلو وجلبه في جردل، ثُمّ تسخينه على هذا الموقِد. فالاستحمام في الطشت بكوب وليفَة الإسفنج. ولا تبذِّري الماء الدافيء، فكل قطرة محسوبة ومُهِمّة”.فقط من اضطر لكسب حاجته اليوميه من الماء الساخِن يعرف حقًا معنى تقديره.كانت المحاولة الأولى كارثية. أحضرتُ ماءً من البئر، لكني سكبت نصفه في الطريق. وضعتُ القِدْر على الموقِد، لكنّني لَمْ أكُن أعرف كيف أشعِل النار. جاءت جدّتي لمساعدتي، ضاحكة من قِلّة حيلتي وقالت وهي ترتِّب الحطب في الموقِد بحركات دقيقة: “في المدينة، لديكِ كل وسائل الراحة، لكنّكِ لا تعرفين كيف تدبّري الأمور البسيطة”.بعد ساعة، أصبح الماء دافئًا أخيرًا. أرتني جدّتي كيف أسكُب القليل من الماء الساخِن على البارِد في الجردل، لأختبر درجة الحرارة بمرفقي، وألا أضع الكثير منه.“الآن، اخلعي ملابِسك واغتسلي بهذا الكوبِ”، شرحت وهي تُناولني كوبًا قديمًا من الطلِس. “أولًا، تبِلّي نفسك بالماء، ثُمّ تغسِلي جسدِك بالصابون، وبعد ذلك تشطفيه. ليس كما في المدينة حيث تجلسي تحت الدُشِّ لعشر دقائق”.شعرتُ بنفسي مِثل زرزور يتعلّم الطيران. كان الماء ساخِنًا جِدًا، ثُمّ بارِدًا جِدًا. كانت الصابونة تسقُط من يدي. بدا الشطف عملية لا نهاية لها مع هذا الكوب الصغير.“جدّتي!”. صرختُ بعد عشر دقائق. “لا أستطيع!”.قالت ضاحِكة: “يا إلهي، لا تغتسِلي كفرخة تحت المطر”.أرتني كيف أستخدم الماء باعتدال – قليل على الليفة الإسفنجية، التي تترُك بانتظام رغوة الصابون على جسدي وأطرافي، ثُمّ أشطُف نفسي بسرعة ولكن بكفاءة.كان الأمر أشبه بفنٍّ عليك إتقانه. قالت لي وهي تساعدني: “في الماضي، كُنّا نغتسِل مرّة واحِدة في الأسبوع، مساء السبت. جميع أفراد العائلة بالتناوب، في نفسِ الطشت. الأب اولاً، ثُمّ الأم، فالأطفال من الأكبر إلى الأصغر. لَمْ يكُن الأمر كما هو الآن حيث نستحمّ كل يوم”.في الليلة الثالثة، بدأت أعتاد على الأمر. وفي الخامسة، أصبحت قادِرًة على القيام بكل شيء بنفسي، من إشعال النار إلى غسل جسدي. وفي اليوم العاشر، أدركت أنني أحببت هذه الطقوس.كان هناك شيءٌ من التأمُّل في تسخين الماء، وفي انتظاره يغلي، وفي الاغتِسال ببطءٍ ووعي. لَمْ يكُن الأمر أشبه بدشِّ المنزل حيث كنتُ أدخل تحته تلقائيًا وأخرُج بعد خمس دقائق دون أنْ أعِر العملية اهتمامًا.“هل تعلمي لماذا أحِبّ الاغتِسال في هذا الطشت؟”. سألتني جدّتي ذات مساء، بعد أنْ لاحظت أنّني لَمْ أعُدْ أتذمّر.“لماذا؟”.“لأنّه يمنحني وقتًا للتفكير في اليوم الذي مضى، وفي اليوم الذي سيأتي. إنّه أشبه بالعِبادة بالماء الدافئ. دشّ مدينتكم سريعٌ جدًا – ليس لديكِ وقتٌ للشعورِ بأي شيء”.في الواقِع، في ذلك الطشت تعلّمتُ أنْ أكون حاضِرًة. أنْ أشعُر بملمسِ الماء على بشرتي، أنْ أُقدّر دفئه، أنْ أُدرِك قيمة كل قطرة.وأضافت: “هكذا نتعلّم ألّا نبذِّر. في المدينة، يتدفّق الماء بلا نهاية. أمّا هُنا، فنتعلّم أنّ كل شيء محدود ويجِب إدارته والتعامل معه بعناية”.في الليلة الأخيرة، بينما كُنت أغتسِل للمرّة الأخيرة في طشت الزِنك، شعرتُ بحُزْنٍ غير مُتوقّع. غدًا سأعود إلى بوخارست، إلى الدُشِّ الساخِن الذي لا ينتهي، إلى حياة خالية من الجهد.“سأفتقِده”، قلتُ لجدّتي.“لنْ تفتقِدي طشت الاستحمام،”، أجابت مُبتسِمة. “بَلْ الوقت الذي أتاحه لكِ للتفكير. قد لا تتمكّني من أخذِه معكِ، لكن يمكِنكِ استيعاب الدرس”.الآن، بعد عامين، في كل مرّة أستحمّ فيها في المنزل، أتذكّر طشت استحمام جدّتي. أحاول ألّا أتعجّل، وأنْ أكون حاضِرة، وألّا أُهدِر الماء. لأنّني تعلّمتُ أنّ الرفاهية الحقيقية لا تكمن في الراحة، بل في إدراك تقدير ما لديكِ”.جيلكم لديه كل ما يريده، لكنه لا يعرف كيف يُقدّر أي شيء”، كانت جدتي تقول. وكانت مُحِقّة.أحيانًا عليكِ التخلّي عن الراحة لفهم قيمة الأشياء البسيطة حقّاً.بوخارست- رومانيا12 يوليو 2025؛؛؛…؛؛؛ من المترجم حكاية باللغة الرومانية، اعجبتني، وضعت لها عنوانا وترجمتها من صفحة رومانية بتطبيق فيسبوك باسم “Tăcerea Cuvintelor- صمت الكلمات”:The post (والطشت يجعلك تتأمّل، وتفهم!).. قصة قصيرة من رومانيا appeared first on صحيفة مداميك.