بقلم: إدوارد كورنيليو(1)في مساءٍ تتكاثف فيه الظلال على الخرطوم، كان جوزيف قرنق يسير نحو قدره، لا كسياسيٍ ينتظر منصبًا، بل كمثقفٍ جنوبيٍّ قرر أن يكتب التاريخ بمدادٍ من فكرةٍ لا تُساوم. لم يكن مجرد وزير لشؤون الجنوب، بل كان ضميرًا سياسيًا يحاول أن يزرع بذور العدالة في أرضٍ اعتادت أن تُخصب بالامتيازات لا بالحقوق.(2)حركة 19 يوليو: انقلاب أم محاولة استعادة؟في التاسع عشر من يوليو 1971، تحركت مجموعة من الضباط بقيادة الرائد هاشم العطا، مدعومة من الحزب الشيوعي، لإزاحة نظام جعفر نميري الذي انقلب على مبادئ ثورة مايو.أُعلن عن تشكيل مجلس قيادة ثوري جديد، وأُعيد طرح الحكم الذاتي للجنوب، وأُلغيت مؤسسات القمع، في محاولة لإعادة السودان إلى مسارٍ ديمقراطي تقدمي.لكن الحلم لم يكتمل. فبعد ثلاثة أيام فقط، عاد نميري إلى السلطة بانقلاب مضاد، مدعومًا من ليبيا ومباركة إقليمية، لتبدأ مذبحة الأفكار قبل مذبحة الأجساد.(3)جوزيف قرنق: المثقف الذي لم يساوملم يكن جوزيف من مدبري الانقلاب، لكنه كان رمزًا لفكرته. حين أُبلغ بما حدث، لم يتراجع، بل ساهم في صياغة القوانين الجديدة، مؤمنًا أن التغيير لا يُصنع بالبنادق فقط، بل بالقلم أيضًا.وعندما انهار الانقلاب، لم يهرب. واجه المحاكمة العسكرية، لا كمتهم، بل كصاحب موقف. وفي سجن كوبر، وقف شامخًا، حتى لحظة الإعدام شنقًا في 28 يوليو 1971، إلى جانب عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ.(4)الرمزية السياسية: ماذا يعني اغتيال قرنق؟إعدام جوزيف قرنق لم يكن فقط تصفية جسدية، بل كان اغتيالًا لفكرة السودان المتعدد.كان يمثل الجنوب الذي لا يطلب الانفصال، بل الاعتراف. وكان يمثل الشيوعية التي لا تفرض نفسها، بل تحاور الواقع.اغتياله كان إعلانًا بأن السلطة لا تحتمل من يكتب خارج نصها، ولا من يحلم بوطنٍ لا يُدار من المركز فقط.(5)ما الذي بقي؟بقيت كتاباته، بقيت سيرته، وبقيت قصيدة محمد الواثق التي رثته قائلًا:صديقي المثابر جوزيف قرنقترامى قبيل احتدام الشفقإلى سجن كوبر حيث شُنقفيا رب هل على روحه أقرأ الفاتحةفقد عدم القبر والنائحة(6)حين يصبح المثقف شهيدًا للفكرةجوزيف قرنق لم يمت في يوليو، بل تجسد في كل محاولة لإعادة تعريف السودان.وحركة 19 يوليو، رغم فشلها، كانت لحظة نادرة حاول فيها الحلم أن ينهض، ولو لثلاثة أيام.في زمنٍ تُختطف فيه الأفكار، يظل جوزيف قرنق شاهدًا على أن الفكر حين يُعاش بصدق، قد يُعدم جسديًا، لكنه لا يُمحى.The post جوزيف قرنق وحركة 19 يوليو: حين حاول الحلم أن ينهض من تحت الركام appeared first on صحيفة مداميك.