“كتلة ‘مقتلة’ المتمة” (1 يوليو 1897): يوم كتب المهزوم التاريخ

Wait 5 sec.

د. عبد الله علي إبراهيممرت بيوم الفاتح من يوليو الذكرى الـ128 لما عرف بـ”كتلة ’مقتلة‘ المتمة”. وفيها اصطدمت دولة المهدية (1881-1898) بالجعليين وهم الشعب الذي يسكن الدار شمال الخرطوم إلى مقرن النيل بنهر أتبراـولهذه “الكتلة” ذاكرة ناشبة في الجعليين وكثير من سكان النيل وأواسط السودان تلقي بظلها الثقيل على حرب السودان في يومنا، إذ طابق أهل هذه الذاكرة بين قوات “الدعم السريع” والمهدية بأمرين. أولهما أن كليهما ممن يزعم له أن شعب البقارة في غرب السودان هو حاضنتهما البشرية الاجتماعية. أما الأمر الثاني، فلأن كليهما ارتكب مذابح وانتهاكات مثل “كتلة المتمة” بحق سكان النيل ووسط السودان. فدقت تلك “الكتلة” دون غيرها إسفيناً إثنياً في السودان انقسم به، ضمن ما انقسم به، “أولاد البحر”، وهم شعب النيل وأواسط السودان، عن “أولاد الغرب” وهم شعب البقارة بصورة دقيقة. ولا يكاد الخطاب السياسي يخلو من استصحاب هذه المصطلحات في أيام السياسة العادية، ناهيك عن حرب كالتي تكتنف السودان التي جعلت تلبيسها بصراع أولاد البحر وأولاد الغرب التاريخي مواتياً، وإن ليس صحيحاً بالضرورة.المتمة موقع المقتلة هي حاضرة شعب الجعليين وتبعد 160 ميلاً من أم درمان، وكان عليها أمير من المهدية عبدالله (ود سعد في ما بعد) الذي ينتمي إلى فرع النفيعاب الذين كانت لهم الرئاسة على بلدة المتمة. وكان من المبادرين لبيعة المهدي الذي جعله أميراً على قومه. ثم جاء وقت عام 1897 اختلف فيه مع الخليفة عبدالله اختلافاً انتهى بـ”كتلة المتمة”.رواية مؤرخ لبناني عاش في مصرلربما كانت رواية نعوم شقير (  – 1922) لـ”الكتلة” في كتابه “تاريخ السودان وجغرافيته” والروايات الشفوية المتوارثة هي ما يجري على الألسن في زمننا عنها. وشقير لبناني هاجر إلى مصر وعمل مؤرخاً في جهاز استخبارات الجيش المصري الذي كان يهيئ الرأي العام في مصر وبريطانيا لـ”استعادة” السودان إلى كنف خديوي مصر من براثن المهدية. فقال شقير إن الخليفة عبدالله أثقل على ود سعد بمطالب في استنفار بعض رجاله والمؤن. فانقلب على الخليفة وطلب المدد من الجيش الإنجليزي- المصري الغازي الذي كان بدأ حملة الإطاحة بالمهدية عام 1896. فأمر الخليفة الأمير محمود ود أحمد بتدارك الموقف باعتقاله ليدخل المتمة في الأول من يوليو (تموز) عام 1897. فتحصن رجال ود سعد بالبيوت، ولما رأوا غزارة الأنصار طلبوا من ود سعد أن يفر إلى دنقلا التي كانت بيد الجيش الغازي. فرفض وقال لهم إن “شُراد” عمه المك نمر من شندي هرباً من جيش الأتراك الذي جاء يطلبه لقتله إسماعيل باشا ابن الخديوي محمد علي باشا، لا تزال تنغص عليه. وقال “إما حيينا في بلدنا أو متنا”. وخسر ود سعد الحرب التي قضت على 2000 من رجاله وأسر 32 من نسائهم و234 جارية منهم. وقال شقير إن الأمير محمود أخذ في الأسر 23056 نفساً من الجعليين و12266 من جيرانهم شعب الشايقية وأرسلهم إلى أم درمان حاضرة المهدية. وقد لا تخلو الأرقام من شطح نسبه المؤرخ مارتن دالي إلى خطة استخبارات الجيش المصري للتبشيع بالمهدية في العالمين بدمغها بتصحير سكان السودان.ربما تلاحظ أن عرض شقير للمواجهة بدا كخبط عشواء خلا مما أوجبها، ومعلوم أنه كان وراء المواجهة قرار الخليفة بترحيل أهل المتمة، وهي غرب النيل، إلى شرق النيل فيما سنعرف الدافع إليه لاحقاً. وبدا حتى من الروايات الشفوية التي ذكرت قرار الترحيل أنه إنما صدر عن محض غبينة مهدوية على “أولاد البحر”.المهدية وقرار الترحيلولكن كان قرار الترحيل حسن التأسيس كما جاء في رواية المؤرخ بيتر هولت في كتابه “الدولة المهدية” (1958)، وباع هولت في تاريخ المهدية واسع، فهو من أرشف وثائق دولة المهدية وبوّبها خلال خدمته في كلية غوردون خلال عهد الاستعمار الإنجليزي.فكان الجيش الغازي هزم المهدية في شمال السودان واحتل مدينة دنقلا عام 1896 كما تقدم. وأراد الخليفة بعد تلك الهزيمة تعزيز قواته ودفاعاته شمال أم درمان، فاستدعى أميراً مجرباً في الحرب هو محمود ود أحمد من ولاية دارفور ليعقد له قيادة تلك المنطقة إلى المتمة. وبأثر من ذاكرة حملة إنقاذ غوردون  في 1884-1885 التي غادرت النيل عند منحناه المعلوم لتسلك طريق الصحراء إلى النيل مرة أخرى عند المتمة للخرطوم، اتفق لقادة المهدية تركيز قواهم في المتمة. وكان الخليفة بدأ يشك بولاء ود سعد وأهله كما سيتضح سببه لاحقاً. فشاور ود سعد ثم أمره في الـ23 من يونيو (حزيران) 1897 أن ينتقل بأهله من المتمة إلى ضفة النيل الشرقية لتعسكر فيها قوات محمود وتتربص بالجيش الغازي، واختار ود سعد وأهله مقاومة الأمر. وفي الـ24 من يونيو أرسل ود سعد مندوبين عنه إلى دنقلا ليطلبوا من كتشنر، القائد الإنجليزي للجيش الغازي، سلاحاً وذخيرة، بل (ورجالاً لو أمكن لدعم عصيانهم). وكان الخليفة يعلم بواسطة استخباراته عن ذلك كله. ولم يكُن الوقت يأذن بالاستجابة لمطلبهم، في قول هولت، لأن محمود ود أحمد كان تحرك نحو المتمة وهاجم المدينة الثائرة في الأول من يوليو. وكانت المقاومة في المتمة شجاعة ويائسة، وقُتل ود سعد وأُرسل رأسه إلى أم درمان، ووجدوا معه رسائل تثبت أن العصيان كان وحي الساعة ولم يخطط له كثيراً أو طويلاً.رسالة خاصةلم يكُن قرار الخليفة عبدالله بترحيل أهل المتمة إلى شرق النيل مدروساً وحسب كما رأينا، بل أُبلغ أهل المتمة به عن حذق إداري وبلاغة، فكتب لهم رسالة خاصة منه إلى كافتهم بإخلاء بلدهم للضرورات العسكرية. نورد نصه هنا لأنه من المغيب عمداً، أو جهلاً، في خطاب “كتلة المتمة”:“بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الوالي الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم. وبعد من عبدربه خليفة المهدي عليه السلام، الخليفة عبدالله بن محمد، خليفة الصديق، إلى المكرمين كافة سكان حلة المتمة على وجه العموم فرداً فرداً.بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيها الأعوان أعلمكم الله بالخير أنكم معدودون لدينا من الأصحاب الواقفين مع الإشارة أمراً ونهياً، وظننا بكم علو الهمة في إنجاز المصالح الدينية، وعدم التهاون في سبيل الله ووفاء العهد المأخوذ عليكم، وحيث فهمتم ذلك، وبعلمكم أن حلة المتمة التي أنتم بها هي طريق للسرايا البحرية، ومركز إليها، وكل ما تعينت من طرفنا سرية لضرب الأعداء، فلا بد من مرورها عليها وغشيانها لها، ولا يخفى عليكم ما في مرور السرايا عليكم من المشقة لكم والتعب أكثر من غيركم، لكون الجهة التي أنتم بها مركز للسرايا، ومجمع للطرق، ونظراً لذلك فقد اتفقت مشورة المسلمين، ومن الجملة عمال جهاتكم على انتقالكم منها لجهة الشرق بقصادها من باب الشفقة عليكم بما ذكر عملاً بما اقتضت المصلحة الدينية… وبناءً على ذلك فقد حررنا لكم أمرنا هذا، فبوصوله إليكم وفهمكم لمضمونه فجميعكم بطيب نفس وانشراح صدر خذوا كافة أمتعتكم وأموالكم وجميع متعلقاتكم ماعدا المساكن فقط، وانظروا المحل الموافق بمعرفة عمالكم بقصاد حلتكم في جهة الشرق، وأنزلوا هناك على بركة الله بأكملكم بحيث لا يتفرق منكم أحد كلية، بل جميعكم كونوا في محل واحد نازلين بالجهة الشرقية على صفة منزلتكم الآن بالمتمة، وتكون السوق بحالها عامرة بحذاء الحلة التي تنشئونها بالشرق على حالتها السابقة، وعليكم بالأمان التام في أنفسكم وأموالكم، وحيث إن هذا الأمر قد اتفقت عليه كلمة المسلمين واقتضته مصلحة الدين، وفيه الشفقة عليكم والرحمة بكم ما لا يخفى عليكم، فبادروا إلى تنفيذ الإشارة فيه بغاية الانشراح والقبول لتناولوا مزيداً من الرضا وجزيل الثواب، ولترد لنا منكم الإفادة عن هذا بعد إجراء العمل بموجبه. بارك الله فيكم، وقرن بالنجاح مساعيكم. والسلام”.وقد يستغرب المرء ألا يأتي منشور الخليفة ذلك في عرض شقير للسبب من وراء “الكتلة” وهو المطلع من موقعه في استخبارات الجيش المصري على محررات المهدية، إلا أن محمد إبراهيم سليم، المؤرخ، سادن دار الوثائق القومية لعقود والذي من وراء تحرير ونشر منشورات المهدية، قال إن شقير كثيراً ما لم يجِد المنشور المهدوي المناسب في المكان المناسب.مقاتلة المهديةلو كان “أولاد البحر” هم وحدهم من اختصوا بمقاتل المهدية، المنسوبة جزافاً لـ”أولاد الغرب”، لجاز القول إن “كتلة المتمة” كانت نفث ضغينة مبيتة عليهم. ولكن مقاتل المهدية لا جغرافيا لها ولا عزل بين الأعراق، فلا نعرف ولاية لقيت من عنف المهدية ما لقيت دارفور خلال عملية إرغامها على الهجرة إلى أم درمان بعد تحرير الخرطوم عام 1885 في إطار تعبئة المسلمين كافة في السودان لنشر المهدية في العالم وفتح المدينة الرومية، الفلسطينية، كما هو التصور عند مهدي السنة الذي يظهر عند رأس كل قرن لإصلاح الدين. فلم تكُن دعوة المهدية للبقارة وأهل الغرب إلى الهجرة لأم درمان سوى تجييش لهم في منطقة محررة من دار المسلمين، السودان، لينطلقوا منها لإصلاح الدين كله. وما دخل في روع كثر من أن تلك الهجرات كانت لحشد قوى من أبناء الغرب لتمكين الخليفة عبدالله فيهم سوء اطلاع على استراتيجية المهدية نصاً.فكان أهل دارفور لبوا دعوة المهدية إلى إزالة الحكم التركي- المصري الذي جاءهم متأخراً دون سائر السودان عام 1874. ولكنهم خرجوا على المهدية بقوة واستماتة من دون تهجيرهم. وما جاؤوا أم درمان مهجرين إلا بعدما كسرت المهدية مقاومتهم حتى قال المتخصص في تاريخ دارفور ركس أوفاهي إن مجيء البقارة إلى أم درمان لم يكُن هجرة لتعزير الخليفة عبدالله الذي هو منهم، بل منفى حُملوا إليه حملاً وبكلفة فادحة في الأرواح والأموال.فلم ترحم المهدية شعب الفور حين خرج عليها دفاعاً عن سلطنته المستردة من حكم الأتراك بقيادة السلطان يوسف إبراهيم، فقتل جيش المهدية منهم في معركة دارا الأولى 3 آلاف، وقتل في دارا الثانية 5 آلاف. واقتحم جيش المهدية الفاشر، عاصمة السلطنة، في يناير (كانون الثاني) 1888 وقتل منهم وأسر 4500 من نساء الفور وأطفالهم و130 من الأميرات. وأصر الخليفة على تهجير الميرم (الأميرة) عرفة بالذات لأم درمان لقوة نفوذها بين أهلها.ودارت الأيام على البقارة، فلقي شعب الهبانية منهم الويلات على يد المهدية من دون أن يهجر إلى أم درمان، فهربت جماعة منهم إلى بحر العرب الذي على حدود شمال السودان من جنوبه. فلاحقهم جيش الأنصار، فأسرهم، ولما كسروا سور معتقلهم، وفروا لاحقهم وأُسر منهم في خاتمة الأمر 5460 رجلاً و8415 امرأة وطفلاً و1115 من رقيقهم وجرّدهم من خيولهم منعاً للهرب. كما غنم 8050 من أبقارهم. وقطع جماعة منهم بحر العرب ليلوذوا بسلطان الزاندي زميو. ولهم في ذلك أغنية:“ابينا جانو (عثمان جانو عامل المهدية على دارفور) بجنانو (جنانه) درنا زميو بنيرانو (غير المسلم الموعود بالنار)تركت المهدية بصمة مضرجة بالدم في كل شطر من السودان”.الحقيقة السودانيةقيل إن الحقيقة أولى ضحايا الحرب، والمهدية حقيقة سودانية تجر الآن في وحل الحرب كيفما اتفق. فكانت حقيقة لجيلها الأول الذي فداها معاشاً ومعاداً. وهي حقيقة أنصارها إلى يومنا جسراً لتاريخهم وعنواناً لبصمته. وحين نهض الجيل الوطني في العشرينيات لمقاومة الاستعمار الإنجليزي سند ظهره بمأثرة المهدية، فاعتلى منصتها الوطنية والروحية وصهل من فوق خيل رموزها. وحين نشأت الحركة الإسلامية وثقت بسابقة المهدية لمطلبها إلى أوبة الدولة إلى الدين. ووجد حتى اليسار فيها بواكير حرب الاستعمار والفدائية في ذلك، بل وجد أن فريدريك إنغلز، معلمهم، كان كتب عنها وأثنى عليها.وهي حقيقة للجعليين ربما أكثر مما يتصورون. ومؤسف ألا تبقى من المهدية عند كثير منهم وغيرهم إلا تلك الذكرى الفاجعة وهم من دافع عنها بقوة منذ عقدهم “بيعة الرضا” مع المهدي في أول قيامه. وكانوا طليعة الأنصار في معركة “أبو طليح” في الـ17 من يناير عام 1885 في مواجهة الفيلق الذي بعثت به إنجلترا لإنقاذ الجنرال غوردون، حاكم عام السودان في أخريات الحكم التركي فيه، لفك حصار المهدي له في قصره بالخرطوم. وبلغت حماسة ود سعد عامل الأنصار على الجعليين للمهدية أن لقبوه، في رواية ما، بـ”التعايشي”، والتعايشة ممن ينتسب إليهم الخليفة عبدالله التعايشي، وكانوا الصفوة العسكرية والإدارية في دولة المهدية. وكانت كتائب من الجعليين أنفسهم في جيش الأمير عثمان دقنة يتحرقون للقاء الجيش الغازي حتى خلال كتلة المتمة. ولا تزال منهم جماعات لا ترضى بغير النسبة لها بديلاً.يقال إن المنتصر من يكتب التاريخ، لكن مما رأينا من “كتلة المتمة” فواضح أن المهزوم هو من دوّن تاريخها لنا.The post “كتلة ‘مقتلة’ المتمة” (1 يوليو 1897): يوم كتب المهزوم التاريخ appeared first on صحيفة مداميك.