عمار الباقريُعد خطابا التفوق العروبي والمظلومية الزنجية وجهين لعملة واحدة، فكلا الخطابين يسعيان إلى نيل المشروعية السياسية للحكم، وإقصاء الآخر. فقد استُخدم الادعاء بالانتماء إلى العرق العربي المتفوق، المنتشر وسط العديد من المجموعات السكانية في شمال السودان ووسطه، وامتد لاحقًا إلى غرب السودان، وسيلة لاكتساب المشروعية السياسية للاحتفاظ بالحكم دون إشراك المجموعات الأخرى، أو لإضفاء قداسة دينية بهدف تعزيز النفوذ السياسي. حيث كان يُنظر إلى العرق العربي، ولعدة قرون، باعتباره مصدرًا للدين والعلم والتكنولوجيا، التي كانت تدخل البلاد عبر مصر ومنطقة الحجاز.أما خطاب المظلومية الزنجية، فقد استُخدم هو الآخر كوسيلة لاكتساب الشرعية السياسية للوصول إلى الحكم وإقصاء الاخر، وذلك عبر تقديم هذه المجموعات نفسها كضحايا لمظالم تاريخية، لا سبيل لمعالجتها والتعويض عنها إلا عبر تمكينها من الحكم واستئثارها بالثروة دونًا عن الآخرين. وإذا لم يتحقق لها ذلك، يصبح البديل المطروح هو الانفصال، كما حدث في جنوب السودان، الذي اعادت الطبقة الحاكمة فيه انتاج خطاب الاستعلاء على أساس عرقي كاداة لإستئثارها بالحكم.من يتعامل مع حقائق العلم يكتشف أنه من الصعب، من الناحية العلمية، نسبة أي مجموعة سكانية في السودان إلى عرق نقي، سواء كان عربياً أو زنجياً. فالمجموعات التي تدّعي العروبة تواجه صعوبات جمّة في نسبة نفسها إلى المجموعة العربية من حيث المفهوم العرقي، والذي تعود أصوله إلى المجموعات السكانية في منطقة الخليج العربي واليمن. وعلى الجانب الآخر، فإن المجموعات التي تبنّت خطاب المظلومية الزنجية كأداة للوصول إلى السلطة، يصعب أيضًا نسبتها عرقيًا إلى أي من المجموعات الزنجية في منطقة شرق إفريقيا، ككينيا أو أوغندا أو إثيوبيا.العجيب أن المجموعات الطامحة للاستيلاء على الحكم، دونًا عن الآخرين، تستخدم كلا الخطابين بصورة تبادلية. فتراهم حينًا يتبنون خطاب الاستعلاء العروبي، ثم سرعان ما ينتقلون إلى خطاب المظلومية الزنجية، بحسب مقتضى الحال، لإثبات مشروعيتهم في الحكم.فعلى سبيل المثال، استخدمت ميليشيا الدعم السريع خطاب التفوق العروبي خلال العقدين الماضيين، لتبرير تفوقها على المجموعات الأخرى في إقليم دارفور، بل لتبرير تهجيرهم والاستيلاء على أراضيهم. لكنها عادت وارتدت إلى خطاب المظلومية الزنجية حينما أُحبطت طموحاتها في حكم السودان كله، وتسعى اليوم لاستخدام خطاب الضحية لإضفاء مشروعية سياسية على سيطرتها على إقليم دارفور بأرضه وموارده، في مواجهة الدولة السودانية.نفس الظاهرة، مع اختلافات طفيفة، نجدها في حالة الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي استخدمت خطاب المظلومية الزنجية بكثافة في حربها ضد حكومة السودان، لكنها سرعان ما ارتدت إلى استخدام خطاب التفوق العرقي كوسيلة لاكتساب الشرعية السياسية في احتكار حكم جنوب السودان دون المجموعات السكانية الأخرى.كلا الادعاءين – العروبة والزنجية – ادعاءان باطلان، لا سند لهما من أي حقيقة علمية. كما أن مفهومي العروبة والزنجية طارئان على التاريخ السوداني، الذي يمتد لأكثر من ستة آلاف سنة.ومن منظور أمن قومي، يُعد الخطابان أحد أكبر الأخطار على أي رؤية واقعية للأمن القومي السوداني، تسعى إلى الحفاظ على أمن البلاد وسلامة مكوناتها السكانية.لقد أدّى استخدام هذين الخطابين كأداتين للصراع السياسي، من قبل مجموعات تطمح للهيمنة على الحكم والدولة دون الآخرين، إلى غياب مفهوم الدولة في نظرية الأمن القومي، وأسهم بشكل مباشر في حالة التفكك والضعف التي تعاني منها الدولة السودانية اليوم.لقد أدركت دولة مثل رواندا خطورة هذا النوع من الخطاب، وعملت على محاربته وتجريمه بالقانون، حفاظًا على أمن الدولة وسلامة شعبها. كما بنت شبكة مصالح وعلاقات مع دول العالم قائمة على رفض التعامل مع أي مكون رواندي يستخدم هذا الخطاب وتتوحد إزاءه جميع مكونات الشعب الرواندي.داخل الدولة. وهو النهج الذي نحن اليوم في أمسّ الحاجة إليه.كذلك، نجد أن الحرب التي اندلعت في الخامس عشر من أبريل 2023م، والمستمرة حتى اليوم، هي نتيجة مباشرة لغفلة النخبة السياسية السودانية، التي صاغت نظرية الأمن القومي بناءً على تصور يُقدّس العمق العربي والشرق أوسطي، ويصوّر العمق الإفريقي كتهديد أو محيط غير موثوق.لم يفكر صانع القرار السوداني – ولو للحظة – أن الخطر على الدولة يمكن أن يأتي من بوابة العالم العربي نفسه.وهذا ما يفسّر حالة التسامح المريب والتساهل الخطير التي تعاملت بها الدولة السودانية مع التحالف المؤذي والمفضوح بين دولة الإمارات العربية المتحدة ومعظم الميليشيات في البلاد، بما فيها ميليشيا الدعم السريع. وحج معظم قادة الدولة والسياسة في البلاد اليها، الأمر الذي أدي الي حالة الصدمة والهستيريا التي انتابت السودانيين حين اكتشفوا أن الخطر، هذه المرة، جاء من المنطقة التي لطالما نظروا إليها كبيئة آمنة وملاذ موثوق.نحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى تغييرات جوهرية في العقلية الاستراتيجية السودانية، وذلك عبر تبني نظرية جديدة للأمن القومي، قائمة على وحدة الداخل وبلورة أجندة موحدة للتعاطي مع الخارج. وهو ما سنتناوله في المقال القادم باذن اللهThe post في نقد وتفكيك نظرية الأمن القومي السوداني (3) appeared first on صحيفة مداميك.