Italianoتمكن الرئيس السوري أحمد الشرع من احتواء أزمة السويداء خلال ساعات قليلة عبر قرار بسحب قوات الأمن من المحافظة. خطوة بدت في البداية تراجعًا أمام تصعيد محلي، لكن اتضح لاحقًا أنها جزء من مناورة مدروسة بعناية، أعادت تشكيل المشهدين السياسي والأمني في جنوب البلاد، وربما على المستوى الإقليمي أيضًا.بالتزامن مع هذا الانسحاب الرسمي، تحركت العشائر السورية على نطاق واسع، حيث لبّى أكثر من 100 ألف مقاتل من مختلف المناطق النداء، متوجهين نحو حدود السويداء، دون أي تدخل مباشر من الدولة. هذا الحراك الشعبي، الذي بدا عفويًا لكنه في الواقع منظم، بعث برسالة مزدوجة داخليًا وخارجيًا: التماسك الوطني يتجاوز الانقسامات المؤقتة، ومؤسسات الدولة ليست الأداة الوحيدة للحفاظ على الاستقرار.ما يزيد من أهمية هذه الورقة هو طبيعة هذه العشائر التي تتميز ببنية اجتماعية ممتدة داخل سوريا وخارجها، وخصوصًا في دول الخليج. فالعلاقات القبلية والروابط العائلية بين شرق وجنوب سوريا من جهة، وشبه الجزيرة العربية من جهة أخرى، تمنح هذه المكونات وزنًا سياسيًا وعسكريًا إقليميًا بالغ التأثير. وتشكل هذه الشبكات القبلية والاجتماعية قاعدة دعم متينة تُمكّن العشائر من لعب دور فعال في التأثير على قضايا الأمن والسياسة داخل سوريا وخارجها، ما يجعل تحركها في هذا التوقيت ورقة استراتيجية يصعب تجاهلها في المعادلات الإقليمية.هذا الامتداد الإقليمي يعزز دور سوريا في مواجهة محاولات إسرائيل استخدام قضية دروز السويداء ذريعة لزعزعة أمن البلاد ووحدتها الوطنية، تحت مبررات التدخل العسكري أو الأمني.ومن هذا المنطلق يمكن فهم قرار الرئيس السوري على نحو أعمق: بدلًا من الانزلاق إلى صدام مباشر في منطقة حساسة قرب حدود الجولان، اختار الشرع الرد من خلال تفعيل قوة شعبية داخلية موحّدة ومنظمة، ترسل رسالة ردع ناعمة لكنها فعالة. فعندما تحل العشائر مكان القوى الأمنية، يتسع نطاق الرد ليتجاوز العملية العسكرية إلى أبعاد سياسية واجتماعية يصعب تشويهها خارجيًا أو تصويرها على أنها “حرب أهلية”.على الصعيد الإقليمي، جاءت هذه الخطوة في لحظة حساسة. فالأوساط الإسرائيلية لا تُخفي قلقها المتزايد من صعود الرئيس السوري الجديد، الذي، رغم خروجه من قوائم الإرهاب الدولية وإعادة هيكلة مؤسسات حكمه رسميًا، لا يزال يُنظر إليه في تل أبيب كخطر استراتيجي. ويعود هذا القلق إلى أن الشرع، بخلفيته الجهادية، يعرف جيدًا كيف يوازن بين العمل المؤسساتي والتعبئة الشعبية، وبين الخطاب الداخلي والرسائل الخارجية.ويُضاف إلى ذلك أن بعض التيارات الجهادية التي قاتلت في سوريا في السنوات الماضية ما تزال تعتبر الجبهة مع إسرائيل احتمالًا واردًا في أي لحظة، وهو ما تدركه إسرائيل جيدًا. من هنا، تبرز صعوبة احتواء هذه القوى وإعادة دمجها ضمن الهيكلية الجديدة للدولة السورية دون استعدائها أو استفزازها، وهي معادلة يواجهها الشرع يوميًا.في المحصلة، لم تكن تعبئة العشائر مجرد رد فعل على أزمة محلية، بل ورقة استراتيجية استخدمتها دمشق لتفادي الانجرار إلى مواجهة مباشرة كانت بعض القوى الإقليمية والدولية تسعى لتسريعها. والرسالة واضحة: سوريا، بنظامها الجديد، قادرة على ضبط فضائها الداخلي، وإطلاق رسائل ردع ذكية، دون الوقوع في الفخاخ التي تستهدف تقويض تجربتها الوليدة في الحكم.