د. فيصل عوض حسنعقب مُماطلات وجولات مُفاوضات استنزافِيَّة عديدة، أعلنت إثيوبيا عن إنجاز سد النهضة، حيث قال رئيس وُزرائها آبي أحمد لبرلمانه أنَّ “العمل بات الآن مُنجزاً، ونحن نستعد لتدشينه رسمياً”، ثُمَّ وَجَّه رسالة تطمينيَّة لدولتَي المَصَب (السُّودان ومصر)، بأنَّ السَد لا يشكّل تهديداً، وإنَّما (فرصة مُشتركة)، رغم تأكيداته المُتوالية بعدم اعترافه بجميع اتفاقيات المياه السَّابقة باعتبارها تمَّت في عهد الاستعمار!المصريُّون وكما مُتوقَّع ملأوا الدنيا ضجيجاً بشأن الملء والتشغيل وكأنَّها إشكالِيَّة السد الوحيدة، ولكنهم يفعلون ذلك ليُحافظوا على حِصَّتهم من مياه النيل (55.5 مليار متر مُكعَّب)، وهذا ما أكَّدَه وزير خارجيتهم، حينما قال أنَّ مصر ومُؤسَّساتها لن يسمحوا تحت أي ظرف بالمساس بتلك الحِصَّة! أمَّا المُدهش والصادم في آنٍ واحد، هو حالنا نحنُ السُّودانِيّين (حُكَّاماً/شعب) إذ تجاهلنا سَدَّ النَّهضة وتبعاته المُرعبة، وبعضنا أفرط في السذاجة لدرجة الفرح بهذا السد، مُتناسياً ورُبَّما جاهلاً بأنَّنا (ضَحاياه الحصرِيُّون)! وقبل التَعَمُّقِ في الموضوع، يجب التذكير بحقيقتينِ هامَّتينِ، الحقيقةُ الأولى أنَّ للمصريين/الإثيوبيين أطماعٌ تاريخيَّة، وتجاوزاتٌ مُتراكمة في بلادنا، ومن السذاجة بمكان تأييد إحداهنَّ أو الاحتماء بها لمُواجهة شرور الأُخرى، فلا خير في هذه على تلك. والحقيقةُ الثانيةُ، وهي الأخطر، أنَّ كلتا الدولتين تحتل أراضينا، إذ بدأت مصر باحتلال حلايب، ثُمَّ ابتلعت أجزاء من أراضينا النُوبِيَّة وبعض شمال دارفور، حتَّى أصبحت أرقين ميناءً بَرِّياً لمصر، بعدما كانت حدودنا معها في قسطل! في ما ابتلعت إثيوبيا منطقة الفَشَقَة، واستمرَّت تَوَغُّلاتها داخل السُّودان حتَّى بلغت منطقة الدِنْدِرْ وأقامت فيها قُرىً كاملة، وما خُفِيَ أعظم! وهاتان الحقيقتانِ تُحتِّمانِ علينا عدم الدفاع عن إثيوبيا/مصر أو تأييد إحداهما على الأخرى، ولنُوَجِّه اهتمامنا ببلدنا السُّودان المغدور من كلا الدولتين، والأهمَّ من ذلك علينا الاستناد لنصوص اتفاقِيَّة سَدِّ النَّهضة الإطارِيَّة، باعتبارها الوثيقة القانونِيَّة الوحيدة المُعْتَمَدة دولياً وإقليمياً بشأن هذا السَّد، ولأنَّ القانون الدولي وغيره يعتمد فقط (النصوص) الجامِعَة والمَانِعة، ولا يعترف بالأماني والأقاويل غير (المُوثَّقة)، وهذا ما أرَدْتُ تثبيته قبل الخوض في تفاصيل الموضوع!بالنسبة لوثيقة السَّد الإطارِيَّة المُوقَّعة فعلياً سنة 2015، وهي (المُلْزِمَة) لجميع الأطراف، فقد مَنَحَت إثيوبيا حُرِّيَّةً مُطلقة للتصَرُّف في كل ما يتعلَّق بسَدِّ النَّهضة، الذي تفوق تهديداته بكثير جُزئيَّة الملء والتشغيل، لتُشَكِّل تهديداً سِيادياً ووجودياً لنا ولبلادنا. وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فإنَّ نص المبدأ الثالث من وثيقة الاتفاقِيَّة يقول: *على الدولة المُتسببة في الضرر، اتخاذ الإجراءات الـ(مُناسبة) بالتنسيق مع الدولة المتضررة لـ(تخفيف) أو (منع) هذا الضرر، و(مُناقشة) التعويض كلما كان ذلك (مناسباً)!* وهذه كارثة حقيقيَّة، إذ كيف نُخفِّف الضرر أو نمنعه وهو قد (وقع) فعلياً؟! حتَّى مُجرَّد (مُناقشة) التعويض، تكون متى (سَمَحَت الظروف)! وماذا سنفعل إذا لم تسمح الظروف؟ ومَنْ (المُلْزَم) بتعويض المُتضرِّرين وكيف ومتى يكون التعويض؟! أمَّا تسوية المُنازعات الناشئة فتكون بالتوافق من خلال المُشاورات/الـتفاوض وفقاً لمبدأ (حُسن النوايا)! وإذا لم تنجح الأطراف في حل الخلاف من خلال المُشاورات أو المُفاوضات، فيُمكن لهم (مُجتمعين طلب التوفيق)، أو (الوساطة) أو إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول/رئيس الحكومة، و(تَحَاشَت) الاتفاقِيَّة تماماً مسألة الـ(تحكيم) لكونها (مُلزمة) و(نهائِيَّة)، واكتفت بعبارةٍ هُلامِيَّة (يُحال لرُؤساء الدول)!وهناك المبدأ الرَّابع الخاص بالاستخدام المُنصف والمُناسب للمياه، إذ تمَّ تفصيل وتحديد الأُسُس والمعايير وفقاً لمصالح مصر وإثيوبيا (خصماً) على السُّودان، حيث شملت تلك الأُسُس الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية و(السُكَّان) الذين يعتمدون على الموارد المائية في كل دولة، والاستخدامات (الحالية/المُحتملة) لتلك الموارد، ومدى توفر البدائل (ذات القيمة المُقارنة) وامتداد ونسبة مساحة الحوض داخل كل دولة، وهي جميعاً أُسُس ومعايير في غير صالح السودان! فالسودان سُكَّانه هم الأقل مُقارنةً بمصر وإثيوبيا، وبالتالي تَضَاؤُل استخداماته الحالية والمُحتملة من المياه، فضلاً عن تَدَثُّر المصريين بعدم وجود (بدائل) وبالتالي أحقِّيتهم بحِصَّةٍ أكبر، والتي ستكون على حساب السُّودان بِحِجَّة أنَّ لديه (بدائل) لمصادر المياه، وهكذا أصبح (باطل) مصر/إثيوبيا (قانوني) وبمُوافقتنا ومُباركتنا بل وتبرير ذلك الباطل! والخطرُ الأعظمُ يتمثَّل في حجم التخزين المُستهدف والبالغ (74) مليار، بما يتناقض وتوصيات المُختصين القاضية بتخفيضها لـ(11) مليار، وهو الحجم الذي وضعته إثيوبيا في إستراتيجيتها منذ الستينات، بخلاف الأضرار الناجمة عن تخزين الـ(74 مليار)، والتي حدَّدتها اللجنة الثلاثية المدعومة بخبراء دوليين في تقريرها في مايو 2013، خاصَّة مع (عدم) التأكُّد من (سلامة) السَّد التي (تَعَنَّتت) إثيوبيا في تكوين لجان خُبرائها.كثيرون لا يعرفون أنَّ اتِّفاقِيَّة سَدَّ النَّهضة (ألْغَت) اتِّفاقيات المياه السَّابقة، بخلاف تصريحات الإثيوبيين المُتوالية بعدم اعترافهم أصلاً بتلك الاتفاقيات التي حَدَّدت حِصَصْ المياه لكل دولة والتي أضحت مجهولة الآن، وهذا ما أكَّده مُسْتَوْزِرْ الرَّي (ياسر عباس) في 6 يونيو 2020: “ضرورة تبادل بيانات (مُستويات) المياه والتخزين بين السُّودان وإثيوبيا” وهذا إقرارٌ واضحٌ ولا يحتاجُ لتفسير! وهناك مُسْتَوْزِرَة الخارجِيَّة (أسماء مُحمَّد)، يوم 5 يونيو 2020 التي قالت نصاً: “لابد من وجود (دراسات) لآثار السَّد السَّالِبَة، و(تبادل) المعلومات حول (كِمِّيات) المياه القادمة من إثيوبيا”، وهذا إقرارٌ إضافيٌّ بعدم وجود (دراسات) لانعكاسات السد على السُّودان، فضلاً عن تأثيره على حِصَّتنا المائِيَّة! والمُخزي والمُؤلم، أنَّ سدَّ النَّهضة مُقامٌ في أرضٍ سُودَانِيَّةٍ بالأساس، هي إقليم بني شنقول، الذي سَمَحَت بريطانيا لإثيوبيا بحكمه، مُقابل بعض الذهب المُسْتَخْرَج من الإقليمِ، يُدْفَعْ لمُمثِّل الأسرة البريطانيَّة المالكة الذي كان يحكم السُّودان آنذاك، وتبعاً لرفض إثيوبيا للاتفاقيات السابقة، بما فيها اتفاقِيَّة 1902 التي تَمَّ بمُوجبها ذلك الأمر، كان لِزاماً استرجاع الإقليم للسُّودان، وهذا خطأ يرتقي لمُستوى الوصف بـ(الخيانة)، شاركت فيه جميع الحكومات منذ ما يُسمَّى استقلال وحتَّى الآن!إنَّ ما ذكرناه أعلاه أمثلة فقط لاختلالات وثيقة الاتفاقِيَّة المليئة بالثقوب والألغام، مما يعني أنَّ جميع الآراء بشأن (فوائد) سد النَّهضة، مُجرَّد (أقاويل) بلا أساس علمي رصين، أو سند قانوني (مُوثَّق)، حيث اتَّسَمَت جميع بنود الاتفاقيَّة الوحيدة المُعْلَنة للسد بـ(الضبابيَّة)، وخَلَت تماماً من أي نُصوص (تُلْزِم) إثيوبيا أو تُؤكِّد مسئوليتها، عن تأمين وسلامة السد والتعويض عن مخاطره، أو حجم الكهرباء وأسعارها، أو مُساعدة السُّودان في استغلال حِصَّته المائِيَّة وتنظيم سريانها وتخفيف الفيضانات، والأخطر من ذلك عدم وجود أي دراسات (مُخصَّصة) لآثار السَد على (السُّودان). وبعبارةٍ أُخرى، لا يُوجد في الوثيقة ما يُثبت أي فوائد للسُّودان، أو أي (ضمانات) لسلامتنا، أو (التزام) بتعويضنا عن الأضرار، ومن يقول بغير هذا فيأتِنا بوثيقة (قانونِيَّة) جامعة ومانعة تُثبت ذلك! وللمزيد من التفاصيل يُمكن مُراجعة مقالاتي (*حصَّة السودان في مياه النيل قُرباناً لقيام سد النهضة*) بتاريخ 16 مارس 2015، و(*لهم من سَجَمْ البشير نصيب*) بتاريخ 25 مارس 2015، و(*ملامح الاتفاقية الإطارية لسد النهضة ومآلاتها*) بتاريخ 28 مارس 2015، و(*سد النهضة وفبركات المُتأسلمين*) بتاريخ 3 أبريل 2015، و(*اَلْبَشِيْرُ وَتَعْمِيْقِ اَلْاِحْتِلَاْلِ اَلْمِصْرِيّ لِلْسُّوْدَاْنْ*) بتاريخ 18 أغسطس 2017، و(*مَتَىْ يَسْتَعِيْدْ اَلْسُّوْدَاْنْ بَنِيْ شُنْقُوُلْ*) بتاريخ 17 ديسمبر 2017، و(*سَدُّ النَّهْضَةِ: تَضِلِيْلَاْتٌ وَمَخَاْطِرْ*) بتاريخ 8 مارس 2020، و(*اَلْسُّوْدَاْنُ وَاَلْمُهَدِّدَاتُ اَلْسِيَادِيَّةُ اَلْمُتَعَاْظِمَة*) بتاريخ 15 يوليو 2020. بجانب الورقة التحليليَّة الشاملة (*أوضاع السودان الراهنة: التحديات وملامح التأهيل وإعادة البناء*) بتاريخ 28 أغسطس 2015، وورقة (*صِنَاْعَةُ اَلَمُتَأَسْلِمِيْنَ لِلْأَزَمَاْتِ فِيْ اَلْسُّوْدَاْنْ: اَلْنَتَاْئِجْ وَاَلْمُعَاْلَجَاْتْ*) بتاريخ 28 نوفمبر 2016، ومُدَاخلتي في ندوة السدود التي أقامتها حركة كوش، في نيويورك بتاريخ 13 فبراير 2016، وغيرها الكثير.إنَّ إثيوبيا ومصر ظَلَمتا السُّودان (الحلقة الأضعف)، فإثيوبيا أخذت ما تُريده من مياهنا (السطحيَّة) وأراضينا الخصبة، بالفشقة وصولاً لمنطقة (الدِنْدِرْ)، ومصر ابتعلت ما تستطيع من مياهنا السطحِيَّة، وَتَوَغَّلت في غالِبِيَّة الأراضي النُوبِيَّة وبعض شمال دارفور، مما يعني سيطرة المصريين (كلياً/جُزئياً) على الحجر النوبي، بمخزونه الوافر من المياه الجوفيَّة وأراضيه (البِكْرْ)، وهذه هي الحقيقة القاسية التي ظللنا نتحاشاها، ونحن المسئولين عنها وعن تغييرها. نعم، نحنُ السُّودانيين (حُكَّاماً/شعب) مسئولِين، فالبشير وعصابته الإسْلَامَوِيَّة باعوا السُّودان وسيادته بدمٍ بارد، حينما سمحوا باحتلال أراضينا ووَقَّعوا على وثيقة السَّدِ، ورَسَّخوا صورة ذهنِيَّة خاطئة عن فوائده (المُتَوَهَّمة). ومن بعدهم البرهان/حِمِيْدْتي ورُفقائهما بجانب حمدوك وقحتيّيه، الذين واصلوا التضليل والتفريط. ومُنظَّمات المُجتمع المدني ونُخبتنا المُتعلِّمة، خاصةً القانونيين، يتحمَّلون المسئولِيَّة أيضاً لامتناعهم عن إصدار مُجرَّد بيانات، سواء ضد الاحتلال أو بناء هذا السَد الكارثي (عدا الحزب الليبرالي/أ.عادل عبدالعاطي)! علماً بأنَّني دعوتُ القانونيين في عِدَّة مقالات، لـ(توثيق/إثبات) حقوقنا بمُذكِّرات قانونِيَّة للأُمم المُتَّحدة ومجلس الأمن (إنابةً عنَّا كشعب)، لاسترجاع بني شنقول، ومُناهضة الاحتلالين المصري/الإثيوبي، و(إلزام) إثيوبيا بالتعويض لأي أضرار يُسبِّبها السد للسُّودان، وللأسف لم يستجيبوا لدعواتي حتَّى الآن. ونحن كشعبٍ نتحمَّل المسئولِيَّة بتجاهُلنا للتجاوُزات/المخاطر، وحتى الذين اهتمُّوا كانت معاييرهم (مُختلَّة) تبعاً لحملات التضليل التي مَارسَها بعضُ الكُتَّابِ، ولاتباعنا عواطفنا تأييداً لمصر/إثيوبيا مُتجاهلين بلدنا السُّودان (الضحِيَّة الحصرِيَّة)!ليتنا نُدرك أنَّ تهديدات سَدِّ النَّهضةِ لبلادنا سِيادِيَّة/وُجوديَّة، فإثيوبيا التي احتلَّت الفشقة وغيرها واستحلَّت الدماء السُّودانِيَّة منذ سنوات، لن تتوانى عن ابتزازنا بهذا السد، لإشباع أطماعها في أراضينا الخصبة وموانئا البحريَّة، لأنَّها دولة حبيسة ومُزدحمة بالسُكَّأن ومساحتها محدودة، وهنا يكون الخطر سِيادياً والذي قد ينتقل ليُهدِّد وجودنا بإغراقنا وطمسنا تماماً، خاصَّة مع عدم وجود أي (التزامات) قانونِيَّة من إثيوبيا تجاه السُّودان. ولكنَّ الفرصة ما تزال مُواتية (إذا أردنا النجاة والفلاح)، وخيارنا الوحيد يكون بإبرام اتِّفاقٍ (قانونيٍ) واضحٍ ومحضورٍ دولياً وإقليمياً، علاجاً لثغرات اتِّفاقِيَّة السد (المُختَلَّة)، وتثبيتاً لحقوق (السُّودان) المائِيَّة والتعويض عن أي أضرار قد تلحق بنا.The post سَدُّ النَّهضةِ خَطَرٌ سِياديٌّ ووجُوديٌّ على السُّودان ..! appeared first on صحيفة مداميك.