إبراهيم برسيفي لحظة خاطفة من التاريخ، بدا أن اللغة تغيّرت في السودان. لم يعد الهتاف رجاءً، بل إعلانًا، ولم تعد المسيرات فعل كرامةٍ فردي، وإنما جسدًا جماعيًا يهزّ البنية. خرج الناس من منازلهم لا ليطلبوا الإصلاح، بل ليُعيدوا تعريف الوطن. هكذا كانت ديسمبر: جملةً ثورية بدأت بكل ما يلزم من شجاعة، لكنها لم تصل إلى نهايتها. قُطعت قبل أن تُتم معناها.الثورة، كما يقول ليون تروتسكي، ليست حدثًا، بل سيرورة. لحظة يُعلن فيها التاريخ العصيان على منطقه المعتاد. لكن هذه السيرورة تحتاج أكثر من الغضب. تحتاج شرطها الموضوعي: أن تتغير موازين القوى، أن يُنتج الناس وعيًا يتجاوز الرغبة في الخلاص الفردي نحو بناء الجماعة السياسية الجديدة. وهذا ما لم يُستكمل في ديسمبر، لا لأن الناس خانوا الحلم، بل لأن الحلم حوصِر منذ سطره الأول.فهل كانت ديسمبر ثورة؟نعم، بالمعنى الأخلاقي، الوجودي، الثقافي.لكنها لم تكتمل كـثورة سياسية بنيوية.في الثورة، تسقط السلطة لا الحاكم فقط. تسقط ثقافة الطاعة، وتنقلب علاقة المواطن بالدولة. في ديسمبر، سقط البشير، لكن بقيت الدولة كما هي:جيش يتحكم، قضاء يُساوم، طبقة طفيلية تُصفق، إعلام يُلمّع، وشعبٌ يُعاد تسكينه في مربع الخوف والتعب.ديسمبر فتحت الباب. لكنها لم تدخل الغرفة بعد.كل الشروط التي تجعل من ديسمبر “حراكًا ثوريًا” كانت حاضرة:الغضب الجمعي الناضجتجاوز الأحزاب التقليديةتصدّر المهمّشين والمهمّشاتوتولّد لجان المقاومة كأفق جديد للعمل السياسي الأفقيلكن الحراك، الذي كان قاب قوسين من أن يتحوّل إلى ثورة مكتملة، تعرقل بفعل ثلاثة أعداء:الجيش، الإسلاميين، والذات الخائفة التي لم تبرأ بعد من عقدة الاستسلام.في الداخل العميق، ما زال كثيرون يرون في “المنقذ” شرطًا للخلاص. وهذا ما استثمر فيه العسكر، وابتلعته بعض القوى المدنية، حتى عادت البلاد إلى نقطة الصفر.كتب مهدي عامل:“الثورة لا تمضي حين تسقط السلطة، بل حين يسقط وهم السلطة من داخلنا.”وهذا ما لم يحدث بعد.ليست المشكلة في ديسمبر. بل في سردية ما بعدها.حين بدأنا نُسمّي “الوثيقة” عقدًا، و”الشراكة” إنجازًا، و”المجلس العسكري” ضرورة… كنا نُبرمج الفشل بأنفسنا. الثورة تحتاج إلى وضوح قاطع. إلى تسمية الجلاد جلادًا. إلى عدم مساومة القيد لأنه يبدو أقل قسوة من سابقه.لم تُهزم ديسمبر.لكنها لم تنتصر بعد.إنها ــ كما كتب إدوارد غاليانو عن الثورات المجهضة ــ“تمشي، لكنها تُقطع بالسكاكين، وتواصل رغم النزف.”ديسمبر ليست مجرد فصل في التاريخ السياسي السوداني.إنها امتحان الهوية الجماعية: هل نريد حقًا كسر الحلقة، أم نبحث فقط عن ديكور جديد لها؟ربما فشلنا، لكن لا يجب أن نُخدع: الثورات لا تموت، بل تُؤجَّل حين لا يكتمل شرطها الجماعي.ما نحتاجه الآن ليس تكرار ديسمبر، بل تصعيدها، نقدها، استعادتها، لكن بأدوات أكثر وضوحًا وجرأة.ديسمبر كتبت الجملة الأولى.الآن، علينا أن نكملها، أو نصمت إلى الأبد.اليوم، وبعد أن أعادت الحركات المسلحة تشكيل السلطة على صورة بندقيتها، وبعد أن وُلدت ما يُسمى بـ”حكومة الأمل” من رحم الخراب نفسه، لم يعد الطغيان يرتدي الزي العسكري فقط، بل صار يتكلم باسم الثورة، ويوقّع باسْم الجماهير.تلك الحركات التي دخلت الخرطوم ذات يوم كشريك في الحلم، خرجت منها كوكيل لتقاسم الغنيمة. تَمترسَت في الوزارات، وتلبّست لغة “السلام”، لكنها لم تخلع أحذية الحرب. بلاغة الدم لم تغادر خطابها، وخرائط السيطرة أصبحت أكثر وضوحًا من أي برنامج سياسي.ولأن ديسمبر لم تكن مُلك أحد، فإن أي سلطة تُبنى على أنقاضها دون أن تُعيد تعريفها، هي سلطة منزوعة المعنى، حتى وإن لبست ثياب المدنية أو رفعت شعار الوطن.ما حدث في الشهور الأخيرة من إعادة إنتاج للسلطة عبر اتفاقيات ضيقة ومناصب موهومة، هو ارتكاس لا يُخيف الثورة، لكنه يُذكّرها بما لم تُنجزه بعد.فالثوار لم يخرجوا بحثًا عن وزير من الهامش، بل عن دولة لا تُهمّش أحدًا.لم يهتفوا “تسقط بس” كي تصعد حركة مسلّحة إلى مقعد الحاكم، بل كي يُلغى ذلك المقعد من خريطة الهيمنة.ديسمبر اليوم تُطاردها كل القوى التي ادّعت الانتصار لها.الذين صادروا فمها، وشوّهوا لغتها، ووقّعوا نيابةً عن دمها.لكنها، كما كل الثورات الحقيقية، تعود دائمًا من الهامش، من الأحياء المقاومة، من لجان الظل، من جوع الأطفال، ومن الأسئلة التي لا تخشى العراء.ليس العسكر وحدهم من خذل الثورة.بل الذين أرادوا تحويلها إلى عقد شراكة مع القتلة، أو استثمار سياسي مؤقت في بورصة الدولة الفاشلة.وإذا كانت ديسمبر قد أسقطت الطاغية وخلّدت الطغيان، فإن المهمة الآن هي ألا نترك الطغاة الجدد يكتبون تاريخها نيابةً عنها.فهي لم تُولد كي تنتهي،بل كي تُصحّح نفسها… إلى أن تصل.فديسمبر، التي لم تكتمل، لم تمت.إنها تمشي الآن بأقدام جديدة، في الأزقّة التي لم تُؤرشف، في الجوع الذي لم يُوقَّع عليه، وفي الحناجر التي لم تُباع.وحده الحراك الذي يعرف هشاشته يمكنه أن يعيد تشكيل القوة.وحدها الثورة التي تتذكّر خيبتها، تملك فرصة أن تبدأ من حيث لم تنتهِ.لا نحتاج لأبطال، بل لذاكرة لا تُخدَع.لا نحتاج لمناصب، بل لمساحة لا يُمنع فيها الحلم من أن يحكي.ولعل ديسمبر لم تكن سوى السؤال الأول.والآن، آن أوان الإجابة.The post ديسمبر: التي أسقطت الطاغية وخلّدت الطغيان appeared first on صحيفة مداميك.