حمّور زيادةتسعى السلطة العسكرية في العاصمة السودانية البديلة بورتسودان إلى تطبيع الحياة مع واقع الحرب الأهلية، المستمرّة منذ إبريل/ نيسان 2023، بعد الهزيمة التي تلقتها قوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم، وقبلها في ولاية الجزيرة، وإجبارها على الانسحاب غرباً. وبدا واضحاً أن الجزء الأهم من المعركة بالنسبة للنظام العسكري قد انتهى.لم تتوقّف الحرب خلال الشهور الأربعة التي مرّت منذ استعادة الجيش السوداني العاصمة الخرطوم من قبضة “الدعم السريع”. ورغم تهديدات قائد “الدعم السريع”، الذي أعلن الانتقال إلى الخطة “ب”، وجمع مليون جندي للهجوم على شمال السودان، فان كفة الحرب ظلت تميل لصالح الجيش، ما أجبر “الدعم السريع” على الانكفاء في إقليم دارفور وجزء من إقليم كردفان، ولم يعد يحلم بأكثر من احتلال مدينة الفاشر لإعلان حكومة موازية. لكن الفاشر ظلّت لقمةً لم يستطع محمد حمدان دقلو (حميدتي) بلعها، رغم تكرار المحاولات بأكثر من مائتي هجوم على المدينة المختنقة.رغم إعلان الجيش السيطرة على العاصمة الخرطوم، لم تعد السلطة إليها، وظلّت العاصمة البديلة (بورتسودان) مقرّاً للحكومة العسكرية وحلفائها. ورغم تكرار دعوة الجيش المواطنين النازحين إلى العودة، إلا أن الخرطوم ظلّت شبه خاوية، بينما شهدت مناطق ولاية الجزيرة وولاية النيل الأبيض عودة أغلب نازحيها.خلال الشهور الماضية حاول “الدعم السريع” استهداف العاصمة البديلة بورتسودان أكثر من مرّة، كما هاجم عدة أهداف مدنية خدمية. ولكن مع تراجع هذه الهجمات الإجرامية اتجهت الأمور إلى مرحلة شبيهة بما وصفها شارل ديغول، في رسالته إلى جمال عبد الناصر بعد نكسة 1967، فقال: “المنطقة المائعة بين اللاحرب واللاسلم”.جعلت هذه المنطقة المائعة عودة الحياة إلى الخرطوم تبدو مخاطرةً غير مضمونة العواقب. فاتجه قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى تشكيل لجنة عليا “لتهيئة الأجواء المناسبة لعودة سكّان ولاية الخرطوم”، شكّلها من بعض أعضاء مجلس السيادة، ووالي الخرطوم ورئيس الوزراء ووزارات الدفاع والداخلية والمالية والصحّة والتعليم. وهو تشكيل يشي بعدم جدّية الخطوة، في محاولة جديدة بعد محاولات عديدة لإعادة الحياة إلى العاصمة. ورغم تكرار المحاولات وفشلها، فإنها ستنجح في النهاية، وسيطبّع واقع الحرب، لتستمرّ بعيداً من ما يمكن وصفه بـ”السودان المفيد”، حسب النظرة المركزية التي ترى أن وسط وشمال السودان هو السودان كلّه، والبقية ما هي إلا حواشٍ وملحقات يمكن التخلّص منها إذا ما عكّرت صفو الحياة. لذلك كان الاحتفاء بانقسام البلاد في 2011 باستقلال جنوب السودان، ولذلك يستمرّ الحديث عن فصل دارفور، حتى لا يعكّر شيء صفو حياة المركز، وهو ما عبّر عنه الرئيس السابق عمر البشير عندما وصف جنوب السودان بالقاطرة التي تمنع البلاد من الانطلاق نحو التنمية والتقدّم. وهي نظرة ما زالت مستمرّة نحو كلّ ما ليس شمالاً ووسطاً.بدأت الحرب الأهلية السودانية الأولى في 1955، قبل شهور من استقلال السودان، واستمرّت حتى اليوم، متنقّلةً من جنوب البلاد إلى غربها، ظلّ المركز يتعامل معها طوال سنوات اختلالاً أمنياً محدوداً في الأطراف. لم تعد الحرب أمراً مزعجاً، بل هي واقع يومي معاش، تم التصالح معه. لكن حرب 15 إبريل (2023) اختلفت، إذ حملت الدمار إلى قلب البلاد. للمرّة الأولى لم تعد الحرب تأكل الأطراف، لكن هذا تغيّر مع انتصار الجيش السوداني واستعادة العاصمة المحطّمة، إلا أن السلطة لم تشعر بالأمان لترجع إلى الخرطوم، وكذلك المدنيين النازحين. لكنّها رغم ذلك تحاول تطبيع الحياة، للعودة مرّة أخرى إلى نموذج “حرب الأطراف واستمرار الحياة في الوسط”.يلعب التطبيع مع واقع الحرب على نقطة مهمّة، هشاشة وضع “الدعم السريع” وتحالفاته بعد خسارة العاصمة. من هذه الناحية، يبدو الأمر لعبةَ صبر، إذ لا يحتاج الجيش إلا لعامل الوقت لينهار تحالف الدعم السريع. لكن يظلّ الدعم السريع وحلفاؤه، كما كان منذ اليوم الأول للحرب، قادراً على إيذاء الجيش والمواطنين بالهجمات التي يشنّها من بعيد. وفي الوقت ذاته، يمرّ تحالف بورتسودان بمطبّات قوية بعد البدء في تشكيل حكومة، لكن رهان الجيش يستمرّ على عامل الوقت، فهو الحليف الأهم، رغم قساوته على المدنيين النازحين، وهذا لا يهمّ السلطة العسكرية، إذ تختلف حساباتها عن حسابات المواطنين. The post التطبيع مع واقع الحرب في السودان appeared first on صحيفة مداميك.