في نقد وتفكيك نظرية الأمن القومي السوداني (1)

Wait 5 sec.

عمار الباقرشهد الأسبوعان المنصرمان تصريحات لثلاث شخصيات مهمة مرتبطة بالشأن السوداني علي المستوي الدولي والاممي وهم: فولكر بيرتس الرئيس السابق لبعثة الأمم المتحدة للسودان واليكس ديوال الاكاديمي والمدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي ومحمد عبدول كبير المستشارين السابق ورئيس مكتب الوساطة السودانية بالأمم المتحدة. تصريحات الشخصيات الثلاث جاءت علي خلفية التحركات الامريكية في عقد لقاء للرباعية (مصر، السعودية، الامارات ، أمريكا) والمزمع عقده بالولايات المتحدة الأمريكية نهاية الشهر، كما انها قد جاءت جميعها متشائمة وغير متفائلة بمستقبل السودان، ففي اللقاء الصحفي الذي أجراه إبراهيم حميدي لصحيفة المجلة قلل فولكر بيرتس من أهمية البعد الإقليمي في الصراع الدائر في السودان اليوم، وتمسك بفرضيته القديمة القائلة أن ما يجري في السودان انما هو صراع داخلي للسيطرة علي الحكم والموارد، كما تنبأ الرجل بتفكك الدولة السودانية وتحولها الي مراكز نفوذ ذات طابع غير مستقر كما استبعد قدرة اي من هذه المراكز علي تحويل حالة التفكك هذه الي انفصال رسمي. أما في مقالهما المشترك فقد رسم محمد عبدول واليكس ديوال هما الاخران صورة متشائمة لمستقبل البلاد حيث حذرا من أن التحركات الامريكية الأخيرة قد تنجح في وقف الحرب ولكنها سوف لن تفضي استقرار البلاد. وفي الحقيقة لم تأت هذه التصريحات بجديد فهذه المخاوف قد عبر عنها طيف واسع من القوي السياسية السودانية منذ أمد بعيد، ولكن الجديد هو حالة الإحباط التي عبر عنها هؤلاء من الأسلوب الجديد و المغاير في فض النزاعات والذي تنتهجه إدارة الرئيس الأمريكي ترمب والذي يضرب بعرض الحائط كل النظريات القديمة في فض النزاعات والقائمة علي توازنات القوي وتقاطعات المصالح لدي الأطراف المتنازعة. فسلام القوة الذي تنتهجه الإدارة الامريكية الجديدة لا يعترف الا بحزمة مصالح واحدة هي المصالح الامريكية، وبالتالي فإن علي شبكات المصالح الأخرى أن تجد لنفسها موضعاً يصب في خدمة الرؤية والمصالح الامريكية. كذلك لا يعترف هذا الأسلوب فقط بالقوة الخشنة والتي نعني بها هنا القوة العسكرية المباشرة والتي يجب أن توظف هي الأخرى في خدمة المصالح التجارية للولايات المتحدة الامريكية.تم تدشين هذا النموذج في عدد من النزاعات الدولية في حالة النزاع الباكستاني الهندي، والنزاع بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وحقق نجاحاً ملحوظاً، ولكن حظوظه من النجاح كان محدود علي الأقل حتي الان في النزاع بين روسيا وأوكرانيا وفي نزاع إسرائيل مع محيطها الإقليمي في ايران ولبنان سوريا واليمن وغزة.بعيداً عن كل ذلك، فان التحركات الامريكية الأخيرة تضعنا نحن السودانيين أمام تحدي وجودي حقيقي، فعلي العكس مما صرح به فولكر بيرتس فمن الواضح إن الإدارة الامريكية الحالية لا تري أو لا تعترف برؤية ومواقف أي مجموعة سودانية بما في ذلك الجيش والدعم السريع. فهي تنظر الي السودان كساحة للصراعات الإقليمية ولا تري في القوي السودانية إلا بيادق في أيدي هذه القوي الإقليمية، وهذا ما يقسر يفسر توجهها حصرياً نحو مصر والسعودية والامارات لعقد صفقة قائمة علي مرتكزين هما أولاً: ألا شرعية ولا اعتراف باي مصالح مستقلة لهذه الدول الثلاث في السودان فالشرعية والهيمنة فقط للمصالح الأمريكية وعلي هذه الدول إعادة تقديم مصالحها بما يتماشى مع المصالح الأمريكية في السودان. وثانيا: ألا اعتراف ولا رأي لأي قوة داخلية في هذه الصفقة وعلي جميع القوي السودانية عكس مواقفها وتقديم مقترحاتها عبر خارطة التحالفات الإقليمية التي تتبع لها والتي تديرها هذه الدول الثلاث، والتي هي ملزمة بفرض الصفقة الامريكية لاعبيها المحليين دون إبطاء، فرجلنا ترمب يحلم بالحصول علي جائزة نوبل للسلام ويحتاج الي إضافة اسم السودان لقائمة إنجازاته في اقرب وقت للفوز بالجائزة.هنا تتجلي بذلك عبثية المشهد وقمة التراجيديا السوداء بأن يتحول أمن وسلامة ومستقبل خمسين مليون انسان رهينة للأحلام والطموحات الشخصية لإنسان واحد يقبع علي بعد الاف الاميال من بلادنا. وعلي الرغم ذلك ليت لهذا النموذج أن يمتلك القابلية للنجاح. حيث أن مكمن الخطر في هذا النموذج تتمثل في أن شبكة التحالفات بين القوي السياسية والعسكرية السودانية ورعاتها من دول الإقليم الثلاث هي في حقيقتها شبكة ضعيفة وغير مستقرة، تكونت نتيجة لمصالح مؤقتة جدا وغير قابلة للاستدامة بل نأنها في الأصل تكونت بسبب محدودية أو انعدام الخيارات. حيث أن المليشيات المسلحة الدارفورية المتحالفة مع الجيش هي حليف قديم للإمارات ولم تقبل بالدخول تحت عباءة الجيش والمحور المصري إلا مضطرة بسبب تخلي الحكومة الإماراتية عنها واستبدالها بالتحالف الحالي مع ميليشيا الدعم السريع.علي الضفة الأخرى نجد أن ميليشيا الدعم السريع والتي تسيطر حالياً علي كل الموارد في إقليم دارفور وقسم كبير من الموارد في كردفان هي في أمس الحاجة الي الأسواق والمنافذ البحرية لتصدير وتسويق تلك الموارد الأمر الذي يجعل من دولة الامارات العربية المتحدة حليف غير عملي من هذه الناحية. كما ان الأطماع الإماراتية في السودان هي جلها أطماع متعلقة بساحل البحر الأحمر الذي هو تحت سيطرة الجيش وليس الدعم السريع. كذلك نجد أن تحالف القوي المدنية صمود والمحسوب حالياً علي الامارات نجده في حقيقة الأمر يطمح ومنذ أن كان مسيطراً علي حكومة الفترة الانتقالية الي الارتباط بصورة مباشرة بالغرب وعلي وجه الخصوص الولايات المتحدة الامريكية، الامر الذ يجعل منه حليفاً غير موثوقاً بالنسبة الامارات باعتباره الفصيل الأكثر قابلية للعب علي ورقة التناقضات بين دول الإقليم لتحقيق المصالح الأمريكية المباشرة في السودان أملا في المزيد من الحظوة لدي الحكومة الأمريكية.إذن نحن أمام خريطة تحالف المجموعات السودانية الخطأ مع دول الإقليم الخطأ. كذلك لا ينبغي لنا اغفال لاعب دولي قوي مثل روسيا والتي تتمتع بعلاقات عسكرية وجيوسياسية مع كل من الجيش والدعم السريع، وسوف ترتكب الولايات المتحدة الأمريكية خطأً فادحاً إذا ما اغفلت هذا الدور في صفقتها المزمعة. فروسيا قد اشتهرت بأساليبها غير التقليدية والمستترة في إدارتها لشبكة المصالح الخاصة بها في افريقيا ولا استبعد أن تقوم بمفاجأة الولايات المتحدة الامريكية بسيناريوهات ليست في الحسبان.بناءاً علي السرد عاليه فإننا وإن اتفقنا مع التنبؤات التي توصل اليها كل من بيرتس وديوال وعبدول إلا أننا نختلف معهم في الاسباب المقضية لتلك التنبؤات فالأزمة السودانية اليوم لا تحتاج فقط الي اتفاق الفرقاء السودانيين علي مشروع لتسوية الصراع الدائر في البلاد بل هم في حاجة الي إعادة صياغة نظرية جديدة للأمن القومي تقوم فيها جميع القوي السودانية بفض تحالفاتها الدولية والإقليمية الحالية واعتماد خارطة تحالفات جديدة متفق عليها بين الجميع ومستندة علي مقاربة الخارج في خدمة مصالح داخلية متفق عليها بين الجميع وبناء شبكات مصالح دولية وإقليمية تخدم قضية بناء دولة سودانية قادرة علي حماية الأرض والموارد والمصالح طويلة الأمد لمختلف المجموعات السكانية وحفظ التوازن بينها وغل يد الحكومات عن المساس بتلك المصالح المستدامة. وهو ما سنتناوله في سلسلة مقالات قادمة بإذن اللهThe post في نقد وتفكيك نظرية الأمن القومي السوداني (1) appeared first on صحيفة مداميك.