عمار الباقرنظرية الأمن القومي هي إطار تحليلي يدرس كيفية حماية الدولة لكياناتها الحيوية (الأرض، السكان، السيادة، المصالح) ويمكن تعريف نظرية الأمن القومي باعتبارها الرؤية تتبناها الدول للإجابة علي سؤالين مهمين:1. ماهي الثوابت والتدابير المستديمة الواجب اتخاذها للحفاظ علي أمن وسلامة اراضي البلاد وشعبها وضمان سيادتها علي أراضيها ومصالح شعبها.2. ماهي طبيعة الدولة والدور الذي ينبغي أن تلعبه داخلياً إزاء شعبها، وخارجياً تجاه بقية دول العالم.من المهم الإشارة الي أنه ولكي تتحول هذه الاجابات الي نظرية مستقرة للأمن القومي لابد لها أن يتم تبنيها و استيعاب مقاصدها بواسطة جميع المواطنين بالدولة بحيث تصب تصرفاتهم وردود أفعالهم في خدمة هذه الرؤية ومتسقة معها. بالتالي فان نظرية الأمن القومي هي مفهوم أعمق بكثير من مجرد كونها سياسة حكومية تضعها المجموعة الحاكمة أو مجموعة من الأكاديميين أو السياسيين النافذين. بل هي أحد اشكال التعبير عن وجدان وتاريخ الشعوب وكيف تظرتها الي دورها التاريخي والحضاري التي تطمح اليه بين بقية الشعوب.لشرح هذه المسألة دعونا ننظر الي الطريقة التي تعاملت بها بعض الشعوب حينما حاولت حكوماتها إحداث تغيرات جوهرية في نظرية الأمن القومي لا تتماشي رؤية شعوبها. في مصر علي سبيل المثال، ترتكز نظرية الأمن علي ثلاث مرتكزات اساسية : الأول أمن وسلامة أمدادات المياه العذبة القادمة اليها من نهر النيل، والثاني هو أهمية الدور القيادي الذي يتوجب أن تلعبه الدولة المصرية في محيطها لضمان أمنها القومي والثالث هو النظر لإسرائيل باعتبارها عدو وكيان غير طبيعي في المنطقة. وحينما حاول الرئيس انور السادات ايجاد مقاربة جديدة للامن القومي المصري بفرض التطبيع مع اسرائيل وانتهاج سياسة انسحابيه للدور المصري علي المستويين العربي والافريقي، لم يعبأ المواطن المصري بهذه التحولات واستمر في العمل بسياسته القديمة فاحتفظ بموقفه السلبي من اسرائيل وقاوم سياسة التطبيع حتي افرغها من أي محتوي شعبي حتي تحولت الي سياسة حكومية، كما استمر في التأكيد علي المستوي الشعبي في التأكيد علي الدور القيادي للدولة المصرية في محيطها. فالمواطن المصري يعي بغريزته أهمية هذين العنصرين لامنه القومي وارتباطهما العضوي بمياه النيل التي هي المسألة الاساسية في أمن مصر.بالنظر بعيداً نحو الشمال الشرقي نجد أن دولة كبيرة مثل روسيا قد مرت بموقف مشابه ، فنظرية الأمن القومي الروسي تقوم هي الأخرى علي مرتكزين هما: النظر الي الغرب باعتباره مصدر خطر دائم والغرب هنا كان يقصد به غرب أوروبا ثم تطور مصطلح جيوسياسي يشمل غرب أوروبا وشمال القارة الامريكية واستراليا واليابان. والمرتكز الثاني هو النظرة الذاتية للدولة الروسية باعتبارها قائدة للشرق وهنا ايضا كان يقصد بالشرق شرق أوروبا ثم تطور الي مصطلح جيوسياسي يشمل شرق أوربا واسيا وأفريقيا وقارة أمريكا الجنوبية. وحينما حاول بوريس يلتسين تبني سياسة تتناقض مع مرتكزات الأمن القومي لبلاده عبر التقارب مع الغرب بل ومحاولة دمج روسيا في المجتمع الغربي، قام المواطن الروسي أيضاً بتجاهل تلك السياسة الجديدة واستمر في نهجه القديم، فسياسة الحذر وعدم الثقة في الغرب هي ليست وليدة الدولة السوفيتية كما يتوهم البعض بل هي نظرة تاريخية مترسخة في الوجدان الروسي لمئات السنين.بالنظر الي نظرية الأمن القومي في السودان مقارنة مع نظيراتها في مصر وروسيا نجد أن المجموعة التي قامت باستلام السلطة من المستعمر البريطاني وللأسف الشديد قد صاغت نظرية هشة للأمن القومي عبرت عن طموحاتها في الوصول للسلطة والاحتفاظ بها أكثر من كونها تعبيراً عن وجدان شعب السودان وبعيداً عن حقائق التاريخ والجغرافيا. ونتيجة لذلك عجزت هذه النظرية عن عن تطوير مفهوم للدولة مستقل عن مفهوم الحكومة فتحولت نظرية الأمن القومي في السودان الي مجرد سياسة رسمية وعقيدة حكومية لاتعبر عن رؤية مشتركة تتشاركها كل المجموعات السكانية في البلاد بغض النظر عن موقفها من المجموعة الحاكمة أو السياسات الحكومية السائدة. وهذا الوضع قد أدي الي أن تعتقد المجموعات التي تسيطر علي الحكم أن لها الحق في اجتثاث وتصفية المجموعات المعارضة، وكرد فعل لذلك تصبح كل الوسائل المفضية لاسقاط الحكم هي خيارات مشروعة أمام المعارضة. نتيجة لهذا القصور في نظرية الأمن القومي واندغام مفهوم الدولة مع مفهوم الحكومة فقد لجأت كل المجموعات السياسية سواءاً في الحكومة أو المعارضة الي الاستعانة بالعنصر الخارجي في صراعاتها الداخلية بل واستخدمت موارد البلاد التي هي في الاصل ليست ملكاً لا للحكومة ولا المعارضة في هذا الصراع فشهدنا تبديد الموارد البترولية في عهد البشير ثم تهريب وتبديد الذهب وبيع الاراضي بواسطة جميع اطراف الصراع حكومة ومعارضة وباثمان بخسة الأمر الذي لفت انتباه دول العالم والمنطقة واطلق العنان لاطماعها في البلاد.في تقديرنا المتواضع قد تجلت مكامن الخلل في نظرية الأمن القومي السوداني في عاملين هما:1. أنها تمثل رؤية المجموعات المسيطرة علي الحكم، أكثر من كونها تعبير عن رؤية جميع مكونات الشعب السوداني.2. أنها قد ركزت علي الاجابة علي السؤال الأول حول الثوابت والتدابير المتعلقة بالحفاظ علي أمن وسلامة الأرض والسكان من منظور حكومي، واهملت تماماً السؤال الثاني المتمثل في طبيعة الدولة السودانية والدور المنوط بها أن تلعبه داخلياً وخارجياً.كذلك نجد أن نظرية الامن القومي السوداني ظلت ترتكز علي مرتكزين خاطئين ومضللين، الأول: الاندماج في المحيط العربي كبيئة امنة ومصدر حماية دائم، والثاني النظر الي المحيط الافريقي كمصدر خطر محتمل واعتبار جنوب السودان بوابة هذا الخطر. واستمرت هذه النظرية سائدة حتي بعد انفصال جنوب السودان، حيث تم سريعاً بناء بوابة خطر جديدة تمثلت في أقليم دارفور والذي تم تقديم الأزمة فيه باعتبارها صراعاً بين العرب والزرقة في اعادة احياء لسردية العروبة والزنوجة في سودان ما بعد الانفصال، وهو ما سنتناوله في الحلقة القادمة من هذه السلسلة والذي سنتعرض فيه لسردية التفوق العروبي مقابل خطاب المظلومية الافريقية وأثره علي نظرية الأمن القومي السوداني.The post في نقد وتفكيك نظرية الامن القومي السوداني (2) appeared first on صحيفة مداميك.