يسرا حمزةأقفُ عند نهايةِ الجسر في اخرِ بقعةٍ يمكنني الوصولُ إليها وألوح بيدي، كلُ الغزالاتِ الشاردات خرجنَّ من صدرك، وبلل المطرُ فتات الخبز الذي تركتهُ لأعود متتبعةً الطريق نفسه، وكل احاديثك كانت تلهمني بالرحيل، كنتَ كساحرٍ بارع تُلقي بصمتكَ وغموضكَ تعاويذَ علىَّ وتوليني ظهركَ بقميصك الأسود لأعتاد على الظلام والفراغ، ومن ثُمَ أغلقت الباب بهدوء ونزعت جميع قوابس الكهرباء وحولتَ الجدران الى اسفنج، وكلما صرختُ او بكيت تمتصُ صوتي والملح مني، وكنتُ في الوداعِ هادئةً ووديعة كقطة تتأملُ المشهد امامها، وكنتُ اتكئُ على الحائط وكان يتكئُ علىَّ وكِلانا يسكبُ حزنه للأخر، فكلانا طين ونفهم بعضنا باللمسِ دون حديث، ونمتْ بيننا نباتاتٌ صغيرة وتمتدُ جذورها داخل كلٍ منا، واحياناً نتبادلُ القسوة والعصافير والمطر واحاديث العابرين في الطريق، لو عُدتُ الى الخرطوم سأتكئُ على جميع الحوائط وابادلها حزنها بالماء لتنمو الأعشاب مرةً أخرى ويعود العابرون لتبادل الاحاديث، اتذكرُ صباح مبكر وبارظ في خريفٍ بعيد، جلستُ مع امي في السطوح نراقبُ السماء الداكنة ونتناولُ الشاي واللقيمات الساخنة، وكان الرزازُ خفيفاً ويسقطُ في الأكواب ويمتزجُ مع الشاي، كنتُ اجلسُ على كرسيٍ خشبي منخفض وألتفُ بشالٍ ابيضٍ وكبير، هذه الذكرى تجعلُ الحياة اكثرُ احتمالاً، وكل الذكريات عن صباحات الجمعة التي استيقظُ فيها مبكراً على رائحةِ اللقيمات المقلية ورغم توقفي عن تناولِ شاي الحليب الا انني كنتُ اول من يأخذ صحناً ملئياً باللقيمات والسكر، افتقدُ كثيراً الصباح الهادئ في غرفتي، حيثُ كنتُ افتح النافذة واراقبُ الشارع الخلفي والشجرة الكبيرة والعصافير والمارة والسيارات القليلة التي كانت تعبرُ دون ضجيج ولكنها تثيرُ الغبار، افتقدُ تلك الحياة، وحاولتُ كثيراً خلال العامين الماضيين تقليدها وفشلت، ورغم انها سماءٌ واحدة وشمسٌ واحدة لكل البشر الا ان السماء في الخرطوم مختلفة والشمسُ لا تشبه الشمس في اي مكانٍ اخر، وكل ما اراهُ هنا في السماء هو الطائرات وبضع نجومٍ اذا دققتُ النظر، ليست كسماء ليلِ الخرطوم الممتلئة بالنجوم والشهب، كنتُ أقولُ لها سنعودُ حالما ينتهي الخريف ومرت ثلاثةُ مواسم وتوقفتِ الحرب ولم أجهز حقيبتي بعد، وما الذي سأحمله الى بيتٍ يملؤه الرصاص والصمت؟ وكيف سأواجهُ مكتبتي المنكفئة وكتبي المبعثرة ولوحاتي الممزقة؟ هل ستعرفني شجرةُ النيمِ والقطة البرتقالية التي آوت الينا في اخر أسابيع قبل مغادرتنا البيت؟ The post (لأنَ ضوءاً خافت يمكنه ارشادي الى البيت) appeared first on صحيفة مداميك.