من تاريخ العزلة الاقتصادية في السودان: التأميم والمصادرة وأزمة الاستثمارات والقروض

Wait 5 sec.

د. نازك حامد الهاشمييمثّل القطاع الخاص في أي دولة من الدول العمود الفقري للنمو الاقتصادي والتنمية المستدامة؛ إذ يُعد المحرك الرئيس للابتكار، وتوفير فرص العمل، وجذب الاستثمارات. وقد مر القطاع الخاص في السودان بمراحل متقلبة منذ فترة الاستعمار وحتى يومنا هذا، حيث تداخلت عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية أثرت سلباً على مساره بشكل مباشر. وكما هو معلوم فقد بدأت قصته مع استيطان جاليات أجنبية في البلاد عملت على الاستثمار في مجالات متنوعة، وأسهمت في بناء نسيج اقتصادي متنوع، قبل أن تُعلن قرارات التأميم والمصادرة في مايو 1970م لتغير المعادلة جذريًا، وتبدأ بعدها رحلة الاقتصاد السوداني نحو العزلة الاقتصادية ويتزايد الاعتماد على القروض الخارجية. وشملت تلك القرارات آنذاك العديد من الشركات الأجنبية، مثل مجموعة شركات بيطار وشركة شاكروغلو وشركة كونتوميخالوس وشركة مرهج وشركة سركيس أزمرليان وشركة جوزيف قهواتي، إلى جانب شركات سودانية بارزة مثل شركة عثمان صالح وأولاده، وحافظ البربري.وتاريخيا، شهد السودان خلال فترة الاستعمار الثنائي (1898م–1956م) نشأة قطاع خاص أجنبي نشط ومؤثر، أدى دورًا كبيرًا في الاقتصاد السوداني الناشئ. وكانت سلطة ذلك الحكم الثنائي حريصةً على جذب أفراد من جنسيات مختلفة للاستثمار والعمل في السودان، وخاصة من دول مثل بريطانيا واليونان والهند ولبنان وأرمينيا. واستوطن كثير من أولئك المستثمرين في مختلف بِقاع السودان وأسسوا عائلات ومؤسسات اقتصادية ظلت لعقود جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاقتصادي والاجتماعي للبلاد. فقد برزت على سبيل المثال الجالية اليونانية في مجالات عدة، من بينها تجارة الجملة وإنشاء المخابز والمقاهي والفنادق، كما أنشأ بعضهم مصانع صغيرة للثلج والمشروبات والصابون. أما الهنود فكانوا من أبرز الفاعلين في قطاع التجارة، خاصة في تجارة المنسوجات والحبوب وأنواع عديدة من السلع الاستهلاكية، حيث تمركزوا في المدن الكبرى مثل الخرطوم وبورتسودان وكسلا. كما أدى الأرمن واللبنانيون دورًا مهمًا في الأنشطة التجارية المتنوعة، واشتهروا بمهاراتهم في البيع والخياطة والصناعات الخفيفة، وساهموا في إنشاء محلات “راقية” (بمقاييس تلك السنوات) في قلب العاصمة وأسواقها القديمة. وتمتعت تلك الجاليات ببيئة اقتصادية مستقرة نسبيًا خلال العقود الأولى من القرن العشرين، خاصة في ظل ضعف المنافسة المحلية وقلة الخبرات الوطنية في مجالات الاقتصاد الحر، مما أدى إلى تراكم الخبرات والثروات لديهم، وساهموا في تشغيل أعداد كبيرة من السودانيين، إضافة إلى إدخال أساليب حديثة في الإدارة والمحاسبة.وانتهت تلك المرحلة من الازدهار بصورة مفاجئة بعد صدور قرارات التأميم والمصادرة في السودان في عام 1970م. وصدرت هذه القرارات بموجب قانون “تأميم ومصادرة المؤسسات” وكانت مستوحاة من التوجهات الاشتراكية التي تبناها النظام آنذاك، وأُعلن أن الهدف منها هو تحقيق العدالة الاقتصادية وإعادة توزيع الثروة وتقليص الفوارق الطبقية وتمكين الدولة من السيطرة على مفاصل الإنتاج والخدمات. ومع أن الخطاب الرسمي آنذاك ربط تلك القرارات بشعارات تنموية، فإنها أدّت في الواقع إلى تراجع الثقة في الاقتصاد الوطني، وهروب رؤوس الأموال، وانكماش القطاع الخاص، مما أسهم في خلق فراغ إنتاجي وتشغيلي ظلّت البلاد تعاني تبعاته لعقود لاحقة. ولم تكن تلك القرارات قد صدرت بعد دراسات اقتصادية معمقة، ولم تُسبق بحوار مجتمعي أو تخطيط إداري يضمن نجاحها. وكانت النتيجة صادمة؛ فقد غادرت الغالبية العظمى من رجال الأعمال الأجانب السودان بعد فقدانهم لممتلكاتهم، مما أدى إلى فراغ اقتصادي كبير وانهيار مفاجئ في قطاعات أساسية كانت تعتمد على كفاءتهم وخبراتهم، مثل النقل والزراعة والأعمال التجارية والصناعات الغذائية والخدمات الفندقية. وتراجعت الإنتاجية وتوقفت خطوط الإمداد مما حمل الدولة خسائر جسيمة بسبب سوء إدارة المؤسسات المؤممة والمصادرة، التي تحولت – لأسباب عديدة – من مصادر ربحية إلى عبء على ميزانية الدولة، وإلى تدهور في جودة السلع والخدمات.ومع فقدان الإيرادات الناتجة عن طرد الاستثمارات الخاصة، لجأت الحكومة إلى التمويل الخارجي. وعلى الرغم من أن السودان كان قد حصل على أول قرض خارجي رسمي في عام 1958م من البنك الدولي للإنشاء والتعمير (IBRD) لتمويل مشاريع زراعية مثل مشروع الجزيرة، إلا أن وتيرة الاقتراض ارتفعت بشكل كبير بعد التأميم والمصادرة. وفي الفترة من 1973م إلى 1985م حصل السودان على قروض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ودول عربية ثرية، ودخل في اتفاقيات إعادة جدولة مع نادي باريس بسبب عجزه عن الوفاء بالتزاماته. غير أن تلك القروض لم تُستثمر في الغالب في مشاريع إنتاجية تضمن استدامة السداد، بل أُهدرت في مشروعات غير مدروسة أو إدارية مترهلة، مما أفضى إلى أزمة مديونية خانقة أضعفت القرار الوطني وربطت الاقتصاد السوداني بشروط خارجية قاسية.وامتد الضرر إلى حياة المواطن اليومية، حيث تفاقمت البطالة مع توقف المصانع، وتدهورت الخدمات العامة مع غياب الكفاءة، وزادت معاناة الأسر بسبب ندرة السلع وارتفاع الأسعار، مما حول الأمل في العدالة الاقتصادية إلى إحباط وتذمر، وازداد هجرة السكان داخليًا وخارجيًا. ورغم محاولات حكومة النظام المايوي لاحقًا التراجع عن تلك السياسات عبر “الانفتاح الاقتصادي” في أوائل الثمانينيات، إلا أن تلك “الإصلاحات” جاءت متأخرة جداً، إذ أن الثقة في الاقتصاد كانت قد اهتزت بشدة.شكّلت تجربة تأميم ومصادرة القطاع الخاص في عهد مايو 1969م منعطفًا حاسمًا في التاريخ الاقتصادي للسودان، وأصبحت نموذجًا يُستدل به على مخاطر اتخاذ قرارات اقتصادية مصيرية دون ارتكاز على دراسات علمية أو إشراك مجتمعي فعّال. ولم يكن الإخفاق في تلك التجربة نتيجة لغياب النوايا الإصلاحية، بل نتج عن الاستعجال، وغياب التدرج، وتورط بعض الجهات في الفساد، إلى جانب تجاهل طبيعة الواقع السوداني المعقد، ما أدى إلى آثار سلبية عميقة لا تزال انعكاساتها حاضرة حتى اليوم في هيئة اقتصاد هش ودولة مثقلة بالديون.وعقب قرار التأميم والمصادرة، تعرض السودان لتداعيات عميقة أثرت سلباً على استثماراته وعلاقاته الاقتصادية الخارجية، مما أدى إلى عزلة اقتصادية واضحة. فقد غادر معظم المستثمرين الأجانب الذين كانوا يشكلون جزءًا حيويًا من رؤوس الأموال والخبرات الفنية والإدارية، وفقد بذلك الاقتصاد مصادر التمويل والكفاءات اللازمة، مما أضعف قدرته التنافسية. كما تراجع مستوى الثقة الدولية في بيئة الاستثمار بسبب طبيعة القرارات المفاجئة والقسرية، مما دفع المستثمرين الدوليين إلى تجنب السوق السوداني بسبب ارتفاع معدلات مخاطر الاستثمار فيه. وواجه السودان صعوبات في تسويق صادراته، خاصة تلك التي كانت تعتمد على إدارة القطاع الخاص الأجنبي، فتقلصت فرص التبادل التجاري وانخرط الاقتصاد في عزلة نسبية عن الأسواق العالمية. ومع تلك الأوضاع، اضطر السودان إلى الاعتماد المكثف على القروض والمساعدات الدولية، ما زاد من تبعيته للمؤسسات المالية وشروطها المشددة، فعززت حالة الانغلاق الاقتصادي والسياسي. وأدى خروج القطاع الخاص الأجنبي إلى تضييق التنوع الاقتصادي، حيث أصبح الاقتصاد يركز بشكل أكبر على قطاعات محدودة كالزراعة التقليدية، مما حد من قدرة السودان على الانخراط الفعال في الاقتصاد العالمي. وانعكس هذا التدهور أيضًا على العلاقات الدبلوماسية مع الدول المانحة وشركاء التجارة، حيث تراجعت تلك العلاقات بسبب الخلافات الاقتصادية، ما أدى إلى عزلة مزدوجة على المستويين الاقتصادي والسياسي. وبذلك لم يكن خروج الاستثمارات الأجنبية من السودان مجرد فقدان لرؤوس الأموال، بل خلق بيئة من الانغلاق والعزلة الاقتصادية أثرت سلبًا على فرص التنمية والنمو المستدام في السودان.وأثرت هذه الفجوة الكبيرة التي خلّفها خروج القطاع الخاص الأجنبي بعد التأميم بشدة على الاقتصاد السوداني، الذي كان أصلاً محدود الموارد وضعيف البنية الإنتاجية، إذ أن القائمين على شركات وأعمال القطاع الخاص الأجنبي لم يكونوا مجرد مستثمرين، بل كانوا مصدرًا رئيسيًا لرؤوس الأموال والخبرات الفنية والإدارية والتقنيات التي ساعدت على تشغيل الاقتصاد وتحريك عجلة الإنتاج بالبلاد. وبفقدانهم بصورة فجائية واجه الاقتصاد فجوة تمويلية ومعرفية كبيرة، لم تستطع الدولة سدها بسهولة، خاصة مع محدودية الموارد الذاتية وقلة الكفاءات المحلية المدربة آنذاك. وتسبب هذا الفراغ في انخفاض الإنتاجية وتراجع القطاعات الحيوية مثل الصناعة والزراعة الحديثة والخدمات، مما زاد من اعتماد السودان على الواردات وقروض التمويل الخارجي، وهو وضع ضاعف من هشاشة الاقتصاد وعرضه للصدمات الخارجية. كما أدت إدارة المؤسسات المؤممة والمصادرة، التي غالبًا ما كانت تفتقر إلى الكفاءة والشفافية، إلى تضخم الهدر المالي وتدهور جودة السلع والخدمات، مما أثر على القدرة الشرائية للمواطنين وزاد من نسب البطالة والفقر.لقد ظل دور القطاع الخاص في السودان محدودًا لفترات طويلة بعد التأميم والمصادرة، إذ عانى ذلك القطاع من نقص الاستثمارات وتدهور وتَدَاعِي البنية التحتية، وضعف التشريعات التي تحفز القطاع الخاص المحلي والأجنبي على حد سواء. ورغم المحاولات التي جرت في فترات لاحقة لتعزيز القطاع الخاص وتشجيع الاستثمارات، إلا أن التحديات الاقتصادية والسياسية، بالإضافة إلى استمرار المشكلات الهيكلية مثل البيروقراطية والفساد وتذبذب السياسات الاقتصادية، حالت دون تحقيق نقلة نوعية قوية. لذلك يمكن القول إن الفجوة التي أحدثها خروج القطاع الخاص الأجنبي كانت صدمة اقتصادية عميقة في بلد محدود الموارد آنذاك، وأدت إلى ضعف مستمر لدور القطاع الخاص الذي ظل ويظل حتى الآن بحاجة ماسة إلى دعم حقيقي وإصلاحات جوهرية لضمان دوره الفاعل في التنمية الاقتصادية المستدامة.لقد شكلت تجارب السودان الاقتصادية عبر العقود الماضية دروسًا مهمة في فهم العلاقة بين الاستقرار السياسي والاقتصادي ودور القطاع الخاص في التنمية الوطنية. فكما أدت قرارات التأميم والمصادرة في بدايات عهد مايو إلى إضعاف القطاع الخاص وخروج الاستثمارات الأجنبية، برزت حرب السودان في أبريل 2023م كنكسة جديدة تواجه القطاع الخاص، حيث أدى التخريب والنهب الذي قامت به المليشيا إلى تدمير البنيات التحتية في مجالي الصناعة والزراعة وغيرهما، فتوقف الإنتاج، وتعطلت الأسواق، مما زاد من ضعف قدرة القطاع الخاص على النمو والمساهمة في الاقتصاد الوطني. ومعلوم أن استمرار الصراعات وعدم الاستقرار يفاقم من هشاشة أي اقتصاد ويعرقل فرص جذب الاستثمارات، سواءً المحلية أو الأجنبية، وبالتالي يتكرر سيناريو الفجوات الاقتصادية التي شهدها السودان سابقًا. لذلك، يبقى بناء اقتصاد قوي ومرن أمراً يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتحقيق الاستقرار السياسي، وتعزيز سيادة القانون، وتهيئة بيئة ملائمة للقطاع الخاص، كي يساهم بدوره الحيوي في تحقيق التنمية المستدامة التي يتطلع إليها السودان وشعبه.وتُبرز التجربة السودانية عبر العقود أهمية اتخاذ قرارات اقتصادية مدروسة ترتكز على الاستقرار السياسي والحوار المجتمعي، لضمان تعزيز دور القطاع الخاص كمحرك رئيسي للتنمية المستدامة. فالفجوات التي نتجت عن تأميم القطاع الخاص وأزمات التمويل الخارجي، إضافة إلى التحديات الراهنة التي فرضها عدم الاستقرار السياسي، تؤكد أن استعادة الثقة في الاقتصاد السوداني تتطلب إصلاحات جذرية وبيئة استثمارية جاذبة وشفافة. ويظل القطاع الخاص أحد أهم الركائز الأساسية لتحقيق النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل، وبالتالي تحقيق رفاهية المواطن. لذلك، يتعين على الدولة في الغد القريب العمل من أجل إيجاد آليات استراتيجية مرنة تدعم القطاع الخاص (المحلي والأجنبي) لتجاوز الخسائر الناتجة من الحرب لينهض مجددا ويساهم بفعالية في بناء اقتصاد مرن قادر على مواجهة التحديات وتحقيق مستقبل مزدهر للسودان.The post من تاريخ العزلة الاقتصادية في السودان: التأميم والمصادرة وأزمة الاستثمارات والقروض appeared first on صحيفة مداميك.