مولانا محمد أحمد أبو رنات: نُصرةُ العدل وصوتُ الضمير في محراب القانون

Wait 5 sec.

مهدي داود الخليفةفي زحام السير العطرة، تبقى بعض الأسماء محفورة في ذاكرة الأوطان، لا بالألقاب ولا بالمناصب، بل بما زرعته من أثر خالد في النفوس، وما أرسته من قيم راسخة في ضمير الأمة. ومن هذه القمم الشامخة في تاريخ السودان المعاصر، يسطع نجم مولانا محمد أحمد أبو رنات، أول رئيس قضاء سوداني، وواحد من أبرز الرموز القانونية الذين صاغوا معالم العدالة في وطن يتلمس خطى الاستقلال والخروج من عباءة الاستعمار.وُلد أبو رنات في النهود عام 1905، وترعرع في بيت والده العمدة، حيث تشرب من طفولته مفاهيم القيادة والعدالة والمسؤولية تجاه المجتمع. وقد حمل اسمه منذ صغره مزيجًا من الوقار والحزم. لم يكن طريقه نحو القضاء مفروشًا بالحرير، بل خاض غمار الخدمة الحكومية بدءًا من وظيفة مترجم عام 1925، ولكنه كان يحمل في قلبه شغفًا عميقًا بالقانون، شغفاً لا يخبو.كتب في العام 1932 خطابًا مؤثرًا من قسم الري بخزان سنار إلى إدارة تسجيلات الأراضي، عبّر فيه عن حلمه بالانضمام إلى سلك العدالة بعد أن درس القانون بالمراسلة لمدة أربع سنوات في مدرسة لندن للقانون. ورغم ضيق الحال المادي، لم يتخلَّ عن طموحه، بل طرق الأبواب بإصرار، حتى فُتحت له أبواب القسم القضائي عام 1933، ثم التحق بمدرسة القانون في الخرطوم، ضمن دفعة تاريخية ضمّت رموزًا مثل محمد أحمد محجوب وأحمد محمد عتباني.لقد كانت رحلة أبو رنات مع القانون رحلة فكر وروح. لم يكن فقط قاضيًا يقرأ النصوص، بل كان صاحب بصيرة أخلاقية يستنطق القيم قبل الحروف. وحين ترقى إلى قاضٍ من الدرجة الثانية عام 1938، ثم قاضٍ من الدرجة الأولى عام 1943، كان يحمل على كتفيه عبء وطنٍ ينتظر رموزه السودانيين ليبنوا دولته.لقد عاش مولانا القضاء السوداني منذ ولادته الوطنية، وأسهم بوعي نادر في سودنته، لا شكلاً بل مضموناً، حين أصبح أول قاضٍ سوداني يترأس محكمة كبرى، ثم أول سوداني يُعيَّن مفتشاً للمحاكم الأهلية ونائباً لمساعد السكرتير القضائي، في عام 1955، بعد أن أصبح القضاء سودانيًا، لم يتردّد القضاة والمستشارون في اختيار مولانا أبو رنات أول رئيس للقضاء الوطني، خلفًا للقاضي البريطاني ليندسي، فكان اختيارهم تكريمًا للرجل وتكريسًا لمبدأ الكفاءة الوطنية.ومنذ تلك اللحظة، أصبح أبو رنات وجه العدالة السودانية في الداخل والخارج. لم يكن مجرد موظف في جهاز الدولة، بل كان ملاذاً تلجأ إليه النفوس المظلومة، وصوتاً يُحتكم إليه حين تتشابك خيوط القضايا. كانت أحكامه التي كتبها بالإنجليزية مصدر إعجاب قانوني على مستوى دولي، وتُدرس كنماذج في الوضوح والدقة والتوازن. وكان صوته في المحكمة لا يرتفع، ولكن كلماته كانت تُنزل كأنها آيات من فقه الحق.لقد اتسمت فترة رئاسته بالاستقلالية التامة للمؤسسة القضائية، ء، لا بوصفها امتداداً للحكم أو أداة للسياسة، بل كقيمة عليا ترفع الوطن فوق الجميع. وقد كانت سلطة التصديق على أحكام الإعدام من اختصاصه مباشرة، وهو ما يعكس حجم الثقة والسيادة القضائية التي تمتع بها في زمنٍ كان الحاكم العام فيه هو رأس الدولة! وكان صوته مسموعًا، لا بوصفه رئيسًا، بل لما له من هيبة نابعة من نزاهته وعدله ومكانته الأخلاقية.لم يكن مولانا أبو رنات رمزًا وطنيًا فحسب، بل تجاوزت مكانته حدود السودان. ولأن الكفاءة الحقيقية لا تعرف حدوداً، فقد كانت المنظمات الدولية – ومن ضمنها الأمم المتحدة تستشيره في عدد من القضايا القانونية الدولية، واطّلعت المنظمات الأممية على اجتهاداته الفقهية، خاصة في قضايا الأراضي، والأعراف، والنزاعات المجتمعية المعقدة. وكان يُستدعى لمشاورات لا تجرى إلا مع فقهاء القانون من الطراز الرفيع، فكان هو ابن السودان الذي يُصغي إليه العالم باحترام. وًكان ممن أعجبوا بتجربته الدكتور كريشنا فاسديف، الذي نشر بحثًا موسعًا عنه في العدد الأول من مجلة الخرطوم القانونية عام 1979، اعترافًا بمكانة هذا القاضي الفذ، وقد تُرجم هذا البحث لاحقًا إلى العربية ليخلّد اسمه في صفحات الفكر القانوني العربي.لم يقتصر إشعاع أبو رنات على السودان، بل امتد إلى العالم. اختارته الأمم المتحدة مقرراً للجنة حقوق الإنسان، وممثلاً للأمين العام في أفريقيا. وعندما كتب تقريراً عن القوانين الجنائية، أدهش الجميع بأنه كتب كل كلمة بيده ، رافضاً أن يترك المهمة لموظفيه. قال عنه أحد المسؤولين الدوليين: “رئيس قضائكم هو الوحيد الذي يعمل بضمير العالم كله.”إنسانيته خلف جدران العدالةكان مولانا أبو رنات يُقدِّر الإنسان في كل مرافعة، ويقرأ ما وراء الوقائع؛ لم يكن قاسيًا في أحكامه، بل متزنًا، يستحضر واقع المجتمع السوداني ويضعه ضمن سياق القيم والعدالة. ومن يقرأ أحكامه، خاصة تلك التي صاغها باللغة الإنجليزية، لا يسعه إلا أن يشعر بـ عمق التحليل، ورقي اللغة، واستقامة المنطق.لم يُؤمن مولانا بالعقوبات كوسيلة انتقام، بل كوسيلة إصلاح، وكان يرى أن العدالة لا تكتمل إلا إذا فهم القاضي روح المجتمع الذي يُحاكم بين أفراده.لم يكن مولانا أبو رنات مجرد مُنفذٍ للقوانين، بل كان مُصلحاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. في إحدى زياراته لدار الإصلاح، فوجئ بأن الأحداث يُحكم عليهم بعامين سجن، فأصدر منشوراً يذكّر القضاة بأن الهدف هو الإصلاح لا العقاب. وعندما يطُلب منه تأييد حكم إعدام، كان يدرس القضية بعين العدالة لا بعين الانتقام، قائلاً: “العدل ليس في تطبيق النص، بل في فهم روحه.”وعندما تقدم باستقالته في أكتوبر 1964، وقف الوطن كله إجلالاً. لكنه، بنبل الفرسان، عدل عنها فترة قصيرة، ثم قرر أن يترجل من الميدان في هدوء، بعدما أدى الأمانة كاملة. وانتقل إلى رحمة ربه في عام 1979، بعدما زرع في كل قاضٍ وكل محكمة وكل كتاب قانون روحاً لا تزال تهتف: “العدل أساس الملك”.رحل مولانا ابو رنات تاركًا وراءه سيرة ناصعة البياض، وعدالة خالدة لا يُمكن أن تموت.رحل مولانا ابو رنات، لكن صدى عدله لا يزال يتردد في أروقة المحاكم، وأثره باقٍ في وجدان كل قانوني ومحب للعدالة في السودان والعالم.في زمنٍ يتعطش فيه الوطن للعدالة والاستقامة، نحتاج أن نستلهم روح مولانا أبو رنات، لا كذكرى، بل كمنهج حياة. أن نُعيد للقضاء مكانته، وللقاضي هيبته، وللعدل قدسيته. فقد علّمنا هذا الرجل أن القانون ليس حروفًا جامدة، بل قلبٌ نابضٌ بالحكمة والضمير.رحمك الله يا مولانا، فقد كنت حارسًا للعدالة، وصوتًا للوطن، ونموذجًا لما يجب أن يكون عليه القاضي في عالمٍ تشتد فيه الحاجة إلى رجالٍ من طينتك. رحمك الله رحمة واسعة، وجزاك عن السودان ما أنت أهل له من الإجلال والدعاء.“القضاء ليس مهنةً، بل رسالة.. رسالةٌ لا تكتمل إلا حين ينام الجميع مطمئنين على حقٍ أنت تحرسه.”محمد أحمد أبو رناتThe post مولانا محمد أحمد أبو رنات: نُصرةُ العدل وصوتُ الضمير في محراب القانون appeared first on صحيفة مداميك.