بقلم: عبد الله بوصوف جاءت الرسالة الملكية السامية التي وجهها أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس إلى المجلس العلمي الأعلى بمناسبة مرور خمسة عشر قرنًا على ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم لتشكل لحظة فكرية وروحية فارقة، لأنها لم تكتف بالتذكير بذكرى الميلاد الشريف في بعدها الاحتفالي بل تجاوزته إلى إعادة طرح سؤال مركزي: كيف نجعل من سيرة النبي منارة نهتدي بها في القرن الواحد والعشرين، وكيف نحول محبته من مجرد عاطفة وجدانية إلى مشروع حضاري قادر على مواجهة التحديات الكبرى التي تعصف بعالمنا من تطرف وكراهية وانغلاق وصراع. لقد وضعت الرسالة الملكية يدها على جوهر الرسالة النبوية حين أكدت أن أعظم ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام هو التوحيد، وأن الترجمة الأخلاقية لهذا التوحيد في عصرنا تكمن في تربية الأجيال على التحرر من الأنانية في حياتهم الفردية والجماعية. هذه الإشارة العميقة تعيد قراءة السيرة في ضوء حاضرنا المأزوم حيث يطغى منطق المصلحة الذاتية ويضعف الشعور بالجماعة، في وقت أصبح فيه العالم أحوج ما يكون إلى قيم الرحمة والتضامن والعدل. فالنبي لم يكن مجرد مبلّغ لطقوس جامدة بل كان معلمًا للإنسانية كيف تتحرر من نزعاتها الضيقة لتبني مجتمعًا يقوم على التراحم والتكافل والرحمة والمحبة والاحترام. إن الحديث عن السيرة النبوية في بعدها العملي يعني أن نقترب من شخصية الرسول في إنسانيته وتجربته الواقعية، فقد كان زوجًا وأبًا يعرف معنى الحنان والمسؤولية، وكان جارًا يتفقد جيرانه ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم، وكان إنسانًا يعرف معنى الألم حين فقد أحبته ومعنى الفرح حين انتصر للعدل، وكان رجلًا يضحك ويمازح أصحابه ويبكي في صلاته . هذه الصورة إذا قُرّبت إلى الأجيال الجديدة ستجعل منه قدوة واقعية يجدون فيها ذواتهم . (adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({}); وقد جاءت الرسالة الملكية لتضع العلماء أمام مسؤوليتهم التاريخية حين دعتهم إلى إلقاء الدروس والمحاضرات وتنظيم الندوات العلمية بأسلوب يناسب العصر ويمس عقول الشباب وإلى الاستعانة بالإعلام الرصين في التعريف بالسيرة. فالمطلوب اليوم هو ابتكار طرائق جديدة تجعل السيرة حاضرة في وجدان الناس من خلال الرواية والمسرح والسينما والبودكاست ومن خلال إدماجها في مناهج التعليم بشكل يجيب عن أسئلة الشباب الكبرى: كيف أتعامل مع القلق؟ كيف أواجه الفقد؟ كيف أعيش التوازن بين العمل والروح؟ هذه الأسئلة هي نفسها التي واجهها النبي بصفته إنسانًا عاش بين الناس وبهذا المعنى يمكن للسيرة أن تتحول إلى مختبر للقيم ودليل عملي للحياة. أما في معالجة قضايا الصراع فإن السيرة النبوية تقدم دروسًا حية تصلح لكل الأزمنة. فقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم بيئة قبلية مشحونة بالصراعات ومع ذلك استطاع أن يبني وثيقة المدينة التي جمعت بين المسلمين واليهود والمشركين على أساس الحقوق والواجبات المشتركة وهو ما يعدّ أول عقد اجتماعي مدني في تاريخ المنطقة. وفي مواجهة التطرف والعنف اختار العفو يوم فتح مكة عوض الانتقام فحوّل لحظة الصراع إلى فرصة للمصالحة. وفي مواجهة الكراهية وقف احترامًا لجنازة يهودي مذكرًا أصحابه بأن الكرامة الإنسانية لا ترتبط بالدين وحده بل بالإنسان بما هو إنسان. وفي مواجهة الانغلاق أرسل أصحابه إلى الحبشة حيث ملك مسيحي عادل ليؤكد أن طلب الحرية والعدل يتجاوز الانتماءات الدينية الضيقة. هذه المواقف ليست حوادث من الماضي بل هي نماذج ملهمة يمكن أن تشكل أساسًا لخطاب إنساني معاصر يتجاوز الصدام نحو التلاقي. ومن أبرز ما يميز المغرب في علاقته بالرسول الكريم هو حضور التصوف الذي كان ولا يزال مدرسة روحية تربي القلوب على محبته وتجعل من السلوك العملي انعكاسًا لتلك المحبة. فقد شكّل التصوف المغربي منذ القرن السادس الهجري مسارًا لتجذير الأخلاق النبوية في الحياة اليومية للمؤمنين، فكان الذكر والسماع والصلوات على النبي وسائل تربوية لإحياء الصلة بالرحمة النبوية وتزكية النفوس. وقد أسهمت الزوايا والطرق الصوفية في نشر الإسلام في إفريقيا جنوب الصحراء بالقدوة الحسنة والخلق الرفيع أكثر مما فعلته الحروب أو السلطة، وبذلك صارت محبة الرسول جزءًا من الهوية الروحية المشتركة بين المغاربة وإخوانهم الأفارقة. وفي هذا السياق لا يمكن إغفال أثر كتب مثل “الشفا” للقاضي عياض و”دلائل الخيرات” للإمام الجزولي، التي لم تقتصر على المجال المغربي بل انتشرت في المشرق والمغرب وأصبحت جسورًا للتواصل الروحي بين المسلمين. ويبرز التصوف أيضًا باعتباره نقطة فصل ووصل في آن، فهو أشبه بمناطق منزوعة السلاح نلتقي فيها لنتخفف من نزاعاتنا ونزداد محبة واستئناسًا ببعضنا البعض. إنه الفضاء الذي يتيح للإنسان أن يجد معنى جديدًا في وجوده بعدما أرهقته صراعات الواقع وأغرقته المادة في دوامة لا تنتهي. فالتصوف يقدم للإنسان المعاصر جوابًا عن حيرته الكبرى: إلى أي ضفة يبحر وقد فقدت حياته المعنى من التيهةالذي اصابه؟ ومن خلال العودة إلى قيم المحبة والذكر والسكينة يجد الإنسان في التصوف طريقًا للتوازن الروحي والطمأنينة الداخلية، وهو ما يجعل هذا البعد الصوفي أكثر إلحاحًا في زمن تتكاثر فيه أسباب القلق والتيه. (adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({}); وقد جاءت الرسالة الملكية لتذكّر بهذا البعد الصوفي الأصيل الذي يربط المغاربة بسيرة الرسول في بعدها العملي والوجداني، مؤكدة أن إحياء هذه الذكرى ليس مجرد وفاء للماضي بل هو أيضًا تأسيس لمستقبل يحتاج فيه العالم إلى خطاب روحاني يوازن بين العقل والوجدان ويمنح الإنسان طمأنينة داخلية في مواجهة قلق العصر. ومن اللافت أن الرسالة الملكية دعت إلى إشراك المغاربة المقيمين بالخارج والبلدان الإفريقية في فعاليات هذا الإحياء، وهو ما يعكس رؤية استراتيجية تجعل من المناسبة جسرًا للتواصل العابر للحدود. ففي زمن العولمة لم يعد ممكنًا أن يظل الخطاب الديني محليًا ضيقًا، بل صار لزامًا أن يتحول إلى خطاب عالمي يقدم الإسلام كما جاء به النبي: دينًا للرحمة والعدل والتعايش لا دينًا للعنف والانغلاق. وهذا ما تحتاجه الإنسانية اليوم أكثر من أي وقت مضى في ظل تصاعد موجات العنصرية والتطرف وتشويه صورة الدين في الإعلام العالمي. إن الاحتفاء بمرور خمسة عشر قرنًا على ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم كما أبرزته الرسالة الملكية ليس لحظة للحنين وحده بل هو دعوة لبناء الحاضر والمستقبل على أسس الرحمة والعدل والحرية الروحية. فالسيرة النبوية هي المفتاح لفهم كيف يمكن للإيمان أن يتحول إلى أخلاق وكيف يمكن للتوحيد أن يصبح قوة للتحرر من الأنانية وكيف يمكن للسيرة أن تكون دليلًا عمليًا لمواجهة أزمات العصر. وهذا الاحتفاء لن يبلغ غايته الا إذا تحول إلى مشروع تربوي وثقافي يترجم القيم النبوية إلى واقع معاش في المدرسة وفي الإعلام وفي الفن وفي الحياة اليومية. إن الرسالة الملكية وضعت أمامنا خارطة طريق واضحة: أن نستحضر السيرة لا بوصفها رمزًا بعيدًا بل قدوة حية وأن نجعل من محبة الرسول مشروعًا حضاريًا يواجه التطرف والكراهية بالرحمة والانغلاق بالانفتاح والصراع بالمصالحة. وبعد خمسة عشر قرنًا من ميلاده الشريف يظل الرسول الأكرم حاضرًا فينا من خلال القيم التي جاء بها ويظل المغرب وفيًا له من خلال إمارة المؤمنين التي جعلت من حماية الدين ورعاية الهدي النبوي مهمة مستمرة، ومن خلال شعب أحب نبيه وجعل من محبته منطلقًا لبناء حضارته. وهكذا يصبح الاحتفاء برسول الرحمة ليس مجرد ذكرى تاريخية بل رسالة متجددة تنير دربنا في عالم تزداد فيه الحاجة إلى منارات الرحمة والعدل والمحبة والاحترام.